أنا على يقين من أن عنوان المقال وحده سيجعل الكثيرين ينفرون منه، فينفرون عن قراءته، ومن سيتشجع فيجرأ، فما ذلك إلا بدافع حب الاطلاع، أو بحثا عن معرفة مفقودة، أو عن جديد مفيد. لِمَ هذا النفور؟ لأننا تربينا فتعودنا بالتعلق بما أحببنا أو حبّبونا إياه ولو دون فهمه، ورفض، كي لا أقول معاداة، ما عداه بلا أساس ولا منطق. قبل أن أسترسل، أقول لمن التحف بالجرأة وأقدم على قراءة هذه الأسطر، أنه سوف لا يجد فيها جديدا، بل هي محاولةُ زرعِ بذور تغليب العقل والبصيرة في القرار والتنفيذ، وعدم رفض أو قبول، أي فكرة أو رأي أو اقتراح أو مبدئ، إلا بعد التبصر والتحليل، واستعراض التجارب، وتبيُّن نتائجها، وكلّ هذا من خلال الواقع الشخصي وحاجياته، تماشيا مع ثقافته ومكوناته الفكرية والعقائدية والاجتماعية. توضيحا لما سبق، ألفت الأنظار إلى حقيقة وواقع، يتمثلان في أن شعوبا كثيرة ومجتمعات جمة، ساد فيها، بحكم الأقوال والأفعال، رفض هذا النظام أو ذاك، عدم قبول هذه الأفكار أو تلك، دون درس ولا تحليل، ولا بحث عن أسباب أو دواع، غير الامتثال لرأي " عريف عليم "، أو خضوعا لتعليمات في شكل نصائح، يجود بها من حاز، بسحر ساحر عليم، أو وسيلة من وسائل التخدير، ثقة الآخرين، فبرأيه يسيرون. هكذا تربينا، فكبرنا وكبرت معنا عداوة أو كراهية الملكية والنظام الملكي، فنادينا بالجمهورية مؤمنين " باقتناع " أنها أفضل من أي نظام. زاد في ترسيخ هذا الاختيار في عقولنا وأنفسنا، ما نسمع عنه من تصرفات هذا الملك أو ذاك. تسلسلت الأعوام وتتابعت السنون، فعشتُ، فترات مختلفة الطول من عمري، تحت أنظمة متعددة " متباينة"، ملكية، جمهورية، رئاسية ، دكتاتورية، عسكرية ومدنية، وملكية دستورية، وأرادت الظروف والمهنة الإعلامية، أن أتبيّن وأتابع وأعايش، وأحتك ببعض أصحاب القرار في مختلف هذه الأنظمة، فكان لي الدرس المنبّه، والعبرة المفيدة، فاقتلعت من نفسي فرض هذا النظام أو ذاك، وأبعدت عنها الحكم القاطع لهذا أو لذاك أو عليه، قبل التروي، والتأكد من المحاسن والمساوئ، من الفوائد والأضرار، من المكاسب والخسائر، فكانت النتيجة عندي قبول نظامين فقط، الملكية الدستورية، والجمهورية غير الرئاسية، فوضعهما في الميزان لاختيار ما هو أنسب، حسب شروط ومعطيات عدة، منها العقلية الشعبية، ومستوى الشعب علميا وثقافيا وعقائديا، واقتصاديا، وما إلى ذلك مما يجب أن يتوفر كمعطيات وشروط، قبل اختيار هذا النظام أو ذاك. لم أتوقف عند هذا القرار أو الحكم أو الاختيار، أو سمّه ما شئت، بل جعلت أتابع وأبحث عن معلومات، وآراء، وانطباعات، خاصة لدى الجماهير التي تعيش تحت هذا النظام أو ذاك، كما بذلت ما أمكن من الجهد، للحصول على إحصائيات ونتائج تساعد على معرفة ميزانيات وتكاليف كل من النظامين، وما يحتاجه كل منهما كي يقام ويستقرّ ويسير، وهل في سيره إرضاء عام وقبول لدى الشعوب والجماهير. يجب أن ألفت الانتباه هنا أيضا وأُذكّر، أني لست من الدارسين الباحثين المتخصصين، فما قمت به ما كان إلا جهد صحفي، يعمل بمفرده، لا مقابل لما يأتيه في مثل هذه الأبحاث، إلا إرضاء نفسه، وإثراء معلوماته الخاصة، وثقافته الشخصية، وإنارة عقله وفكره. نجحت في بعض المحاولات وفشلت في أخرى، سنة الحياة والأعمال، لكن المحصول كبير وافر، أو هكذا أعتبره، لأنه أبعد عن عينيَّ ظلمات كنت، كالكثيرين غيري، أتيه في متاهاتها، فأحكم أو أبدي رأيي عن أمور لا أرى منها سوى القشور، إذ اللب كامن مكنون، لا يعرفه أو يطلع عليه إلا المقربون، الذين كثيرا ما يخدعون فيخطئون. أول ما تجدر ملاحظته هو أن الملكية الدستورية تكاد تكون منعدمة شرقا وجنوبا. والقليل المعروف منها عديم الشفافية قليل المعلومات عنه. فالحكم له أو عليه سيكون من الخارج، وأي حكم بلا وثائق وأرقام، باطل مرفوض. أما الجمهوريات فهي أكثر، ولا حاجة لي بأن أتعرض لها ولأشكالها وأوضاعها، إذ يكفي التبصّر في وضعنا بتونس، والالتفات يمنة ويسرة، كي تؤخذ صورة حية تجسم النظام الجمهوري لدينا مهما تعددت أشكاله. لذا سأبقى شمالا وغربا. لكن قبل ذلك أضيف إلفات انتباه آخر، وهو أن هذا الموضوع لا يكفيه مقال ولا عشرة، وما اختياري التعرض إليه إلا مدفوعا بفشل الجمهوريات لدينا وفي عالمنا، وقلة الملكيات الدستورية وضبابيتها. ختاما أذكر أن في آسيا تسع ملكيات، وفي إفريقيا ثلاث، وفي أوربا سبع ملكيات وثلاث إمارات، عنها وحولها وعبرها سيكون حديثي وأمثلتي واستنتاجاتي، عسى أن يكون في هذا ما يفيد عند اتخاذ أي موقف، من أي مواطن، مساهمة منه في السلطة التي نقول ونردد أنها للشعب تعود، والصدق فيما نقوله مفقود. لا يزال النظام الملكي سائدا في بريطانيا، وبلجيكا، والدنمارك، وإسبانيا، والنرويج، وهولاندا، والسويد، وإمارات ليشتنشتاين، واللكسمبرغ، وموناكو، بإضافة المملكة التاريخية " أندورّا " وهي اليوم إمارة في شمال شبه الجزيرة الإيبيرية -إسبانيا-. جميع هذه الملكيات والإمارات تتمتع بنظام دستوري، يفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والعدلية. رغم انكماش ومحدودية سلطاتها، فمعظمها تمثل تكاليف محدودة لبلدانها، وتضمن لها مردودا أحسن من الأنظمة الأخرى في الأسواق المالية. أعلاها تكلفة بالنسبة للمواطن الواحد هي اللكسمبرغ. وأقلها تكلفة إسبانيا، ولا شك أنها ازدادت قلة بعد أن خفض الملك فيليب السادس الميزانية التي ورثها عن أبيه بنسبة 20%. فهكذا وبصفة إجمالية تقدر تكاليف الملكية الدستورية سنويا بثمانية ملايين يورو أي ما يعادل 16 سنتيما للمواطن سنويا. أين النظام الجمهوري من كلّ هذا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي أن أية مقارنة في هذه العجالة ستكون غير مكتملة الشروط، لكثرة الجمهوريات، واختلاف أنواعها، وبلدانها، وثقافاتها. لأنه، إن تشابهت الملكيات في أكثر وجوهها ومعطياتها، فالجمهوريات لا تعطي الباحث ولا اثنتين متساويتين. لذا إن قارنا هنا، وإن حكمنا أو أبدينا رأيا، فسيكون تقريبيا، يدنو ويبعد عن الواقع الذي يحتاج إلى مجال أوسع من مقال، ودراسة علمية موضوعية، من لدن متخصصين علماء، مؤكدة بأرقام ووثائق. هذا لا يمنع من إعطاء رسم تمهيدي، معزز ببعض الأرقام، تمكّن من يريد، من تكوين فكرة غير بعيدة عن الحقيقة والواقع. نبدأ بالاستقرار المعتبر أساسيا، لضمان الأمن والعمل والتعامل، وسلامة الاقتصاد ونموه. فازت الملكية الدستورية، بهذا الخصوص، على الجمهورية بأنواعها. نأتي بعد الاستقرار، لتكاليف كلا النظامين، فنقدم بهذا الصدد بعض ما لدينا من أرقام، حتى يتمكن القارئ من تكوين فكرته الخاصة. ففي عام 2015 مثلا، كان مرتب ملك هولاندا 825 ألف يورو، و4,4 مليون للعاملين بالقصر والمعدات. ميزانية القصر ببلجيكا 11,5 مليون يضاف إليها تكاليف الأمن والتنقلات. ملك الدانمارك له 1,34 مليون يورو. أما بالنرويج فميزانية الملك 24 مليونا. بالنسبة لرؤساء الجمهوريات، رئيس الولاياتالمتحدة تقاضى 400 ألف دولار أي 321.121 يورو دون العلاوات، بينما الرئيس الفرنسي كان له 178 ألف يورو، والرئيس الألماني 292 ألف، والرئيس الإيطالي 239 ألف يورو. نجد أيضا أن قصر الكوينيرالي، القصر الجمهوري بإيطاليا، ميزانيته تبلغ 228 مليون يورو، بينما الملكية البريطانية، وهي أغلى الملكيات، فميزانيتها 40 مليونا. أعلى مرتب رئيس جمهورية هو الذي يتقاضاه "مايكل هيغنس" رئيس إرلاندا ويبلغ 20833 يورو شهريا. أما المستشارة الألمانية أنجلا ماركل فمرتبها 20000 ألف يورو شهريا. ليست هذه إلا بعض التكاليف الثابتة المعلنة الملموسة. لكن هناك تكاليف أخرى لهذا النظام لا لذاك، مثل الانتخابات الرئاسية في النظام الجمهوري، التي تكلف كل كذا سنة مبالغ لا يستهان بها. ففي اسبانيا مثلا، ميزانية انتخابات تشريعية ستجرى شهر أبريل القادم، أعدت لها ميزانية مبدئية قدرها 138.961.517 يورو أي 2,97 يورو على كل مواطن. يجب أن نعرف أيضا، أن أغلبية ميزانيات الملكية، تشمل جميع مصروفات القصر وأهله وإدارته وكل حاجياته. بينما ميزانيات القصور الجمهورية لا تشمل خدمات وتكاليف كثيرة تحمّل ميزانياتها على كاهل ميزانيات الحكومات. بعد الشفاء من الدوران وأوجاع الرأس التي تحدثها هذه الأرقام، نقول إن النظامين يحملان عيبا شديد التأثير في نجاحهما أو فشلهما، في استجابتهما إلى مطالب الشعوب أم لا، في ضمانهما الحريات أو مسخها، في تحقيق الاستقرار أو عدمه، وما هذا العيب إلا الأحزاب السياسية التي أصبحت منذ عهد غير بعيد، بتكتلات احتكارية، تعمل لصالحها وأحيانا لصالح بعض أفرادها فقط. فالتجارب في عديد البلدان أثبتت أن نظام هيمنة حزبين سريعا ما تحوّل إلى ما سُمِّي " دكتاتورية الحزبين" ولو بدت غالبا بقفاز من حرير. أما حيث انعدمت الأغلبية المطلقة فتعدّدت الأحزاب والأسواط، فقد انعدم الاستقرار، والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها وضع فرنسا بعد الحرب العظمى وفي أمستهل الخمسينات، وإيطاليا قديما وحديثا، وها هي إسبانيا تدخل الحلبة هي الأخرى، فتواجه عدم استقرار أو قل شللا أطاح بحكومة اليمين وعرقل مسيرة حكومة اليسار، والمستقبل مُغَيّم، والقائمة طويلة، وما حال تونس الآن ببعيد. لهذا ومثله، يجدر بنا، هنا في تونس، أن نتمعن ونتبصّر فيما لحقنا من النظام الجمهوري، قبل، وخاصة ما بعد الانتفاضة، وكم كلفتنا من انتخابات ورئاسات وحكومات، خلال العشرية المنصرمة، وما لم يزل كم هو؟ الله أعلم. فخلاصة القول هو أن كلا النظامين له الوجهان المؤكدان لكل عمل بشري، الوجه الإيجابي والوجه السلبي، وأنَّ تغلب الإيجابي على السلبي موكول لتصرف الإنسان وأخلاقه، ومقدار نزاهته وإخلاصه، ومستوى مقدرته وكفاءته، ثمّ إلى ما يحويه القول الكريم وكيفما تكونوا يُولّى عليكم. أما أنا، فلست مُرشحا للملكية ولا لرئاسة الجمهورية. مدريد في 19-8-2020.