ظللت في موقف حرج جدا وأنا شبه عريان وبدون سروال أمام الناس في أهمّ شارع بباليرمو وكنت في كل مرة أحاول أن أستر نفسي بالجريدة التي كنت ألفّها حول حزامي.. ولما توقفت سيارة الشرطة ونزل منها الشرطي السمين لم أتنفس الصعداء.. ولم أشعر بالراحة.. بل بالعكس شعرت بالانقباض.. وقلت أن الكارثة ستنزل عليّ فتجردني من بقية ملابسي فأصبح مثلما كنت دائما صالح العريان.. وما إن اقترب مني عون البوليس حتى انفجرت بالبكاء.. أما عندما وضع يده على كتفي فلقد ارتعبت.. وكاد قلبي يتوقف.. سألت نفسي: هل أنت مجرم حتى تخاف.. أنت ضحية فاطلب من الشرطي أن يحميك.. ويدافع عنك.. ويستعيد لك حقك.. حاولت اقناع نفسي بهذا المنطق.. ولكنني أخفقت.. لقد كنت دائما ضحية.. ولكنني في قرارة نفسي عندي قناعة بأن الحاكم باستطاعته أن يعفسني ويدمرني وكأنني نملة.. وكأنني حشرة.. وفاجأني عون آخر نزل هو الآخر من السيارة بأن قدم لي قارورة ماء.. وساعدني هو وزميله على أن أقف على قدميّ.. وخطوة خطوة وبكل لطف اتجها بي صوب السيارة وفتحا لي الباب.. ولما أخذت مكاني وتحركت السيارة سقط قلبي أمامي.. لقد خرج من مكانه.. ورحت في ما يشبه الغيبوبة.. توقعت أن يأخذاني الى الحبس.. أن يضرباني.. أن يقطعا أوصالي.. لقد أحسست بوجع غريب.. إنه وجع القهر وقلة الحيلة والضعف والظلم.. ولما انطلقت السيارة وأخذت تنتقل من الشارع الرئيسي الى أنهج فرعية رأيت الأشقياء الثلاثة الذين اختطفوا مني الحقيبة والمال والسروال يجلسون أمام محل للبيتزا وهم يأكلون.. ويتعابثون.. ويتصايحون.. ولما رأيتهم صحت صيحة الفزع وأشرت اليهم.. وأفهمت الأعوان أن هؤلاء هم الذين فعلوا بي ما فعلوا.. ولما رأى الأعوان أحد هؤلاء يضع سروالا حول عنقه.. ورأوا عند الثاني حقيبة فهموا بسرعة أنني تعرضت الى اعتداء من هؤلاء فأوقفوا السيارة على بعد أمتار من محل بيع البيتزا واتجهوا نحوهم بسرعة وحاصروهم.. عندئذ نزلت من السيارة واتجهت صوبهم فسلموني سروالي.. وحقيبتي.. وشكارتي الصغيرة.. شكارة الليرات.. وقبل أن ارتدي سروالي انحنيت على حقيبتي وفتحتها وبحثت عن جواز سفري ولما وجدته أخذت أقبّله.. وأنا كالأبله.. نعم.. في تلك اللحظات لم أكن سوى أبله صغير.. وأخذت سروالي وارتديته بسرعة.. وإذا بأحدهم يترك مائدته ويتقدم نحوي ويتطلع إليّ باستغراب.. ثم أمسك بوجهي وأخذ يحملق فيّ مليّا.. ثم تبعه شخص آخر.. ثم ثالث.. فرابع.. وخامس.. الى أن أصبحت محاطا بجمهور كبير وقد تحوّلت الى فرجة.. وأنا في حالة ذهول.. وكنت أتساءل: ما الحكاية؟.. ما القصة؟.. ماذا جرى؟ وراحوا يصيحون: «روبرتو مارتينو.. روبوتو مارتينو»!!! واتجه صوبي أحد الأشخاص وأخذني من يدي وحمل بيده الأخرى حقيبتي وأدخلني الى محلّ البيتزا.. وأجلسني.. وهو في حالة ابتهاج شديد.. وجاءني بقطعة بيتزا ضخمة لأول مرة أراها في حياتي.. وقارورة ماء.. وكابوتشينو.. ثم اختفى من أمامي.. ولم أفهم!!! ومع ذلك فلقد هجمت على البيتزا.. وفي لمح البصر التهمتها.. فلقد كنت جائعا.. ومتعبا.. ثم بدأت في ترشف الكابوتشينو.. وإذا بالرجل يعود إليّ ومعه امرأة طويلة.. بيضاء.. وشعرها كالليل.. وتنبعث منها رائحة عطر خفيف يحيي النفوس المرهقة.. نظرت اليها وكأنني أنظر الى ملاك.. ونظرت هي إليّ ثم قالت لي بلغة عربية: روبرتو مارتينو بالتمام والكمال.. إنه شيء مذهل.. إنه شيء لا يصدّق.. واقتربت مني ثم جذبت كرسيا وجلست.. بينما ظل الرجل واقفا.. قالت لي: حتى لا أطيل عليك هذا الرجل الذي تراه هو صاحب هذا المحلّ وهو أخي.. ولقد تلفن إليّ قبل قليل وطلب مني أن أحضر لكي أرى المفاجأة.. وها أنا قد حضرت.. وها أنا أرى المفاجأة.. وأنا الى الآن لست مصدّقة.. فسألتها بلهفة: إنني لم أفهم شيئا.. فما الحكاية؟.. ردّت وهي تضحك ضحكة أنستني عذابي.. وشقائي.. وقهري.. وعجزي.. فقالت: لقد ظن الجميع أنك روبرتو مارتيني.. وهم لم يصدّقوا ذلك.. فالتفوا حولك وحوّلوك الى موضوع رهان.. وهناك من راهن بمبالغ كبيرة.. ولكن تبيّن في النهاية أنك لست روبرتو مارتيني.. وإنما أنت نسخة منه.. وسألتها من يكون روبرتو هذا؟ فقالت: إنه البطل الذي دوّخ إيطاليا طيلة العشر سنوات الأخيرة ومازال الى الآن لأنه يقوم ببطولاته ويختفي.. ولم تستطع الشرطة أن تصل إليه.. وقلت لها: وماهي بطولات الأخ روبرتو؟ فقالت: إنه يسطو على البنوك ويستولي على المليارات ويقوم بصفقات خيالية في المخدرات.. ويهجم على أحياء فيشلها تماما.. ويحتلها لعدة أيام.. ولكن الشرطة لم تعثر له على أثر وعصابته أقوى عصابة.. وأشرس عصابة في إيطاليا.. وهي أقوى حتى من المافيا.. وعندما سمعت قصة الأخ روبرتو كاد يغمى عليّ.. ولم أصدّق أنني بهذه القوة.. وأنني بطل وصاحب بطولات..