لقد كان...وكان اسمه يذكر على كل الالسن في الدوائر الحزبية وفي الاوساط النقابية، وكذلك بين زملائه في التعليم، واهل الثقافة، وانتخب خليفا للمرحوم فرحات حشاد، شهيد الوطن، لقيادة المنظمة الشغيلة، وكان نجمه ساطعا في الاوساط العمالية في تونس، وفي الخارج، من "ثقافة صادقية" شاملة و"فكر ديكارتي" ثقيب، يكملها تربية "على طريقة البورقيبيية" التي كان تلميذاً لها ومعجباً بها في ردح من الزمن، واعتبرها طريق النجاح، لبداية نضاله، نشأ في شبابه على حب الوطن، ومع مرور الوقت، أصبح رمزا لأجيال كان لها تأثير إيجابي على مصير البلاد، خلق في النضال من أجل التحرير، و التنوير، والقيام بالواجب على الوجه الاكمل، مع احترام رأي الآخرين، خدمة الغير كانت مرماه، وكان القدوة بالنسبة لجيلي، يعرف كيف يميز النغمات الخاطئة، غرضه أن يكون مفيدًا، أينما كان الواجب، وللتذكير شارك في المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشغل (1951) ، وانتخب أمينا عاما للمنظمة (1954-1956)، وأزيح من قبل الحبيب بورقيبة في ديسمبر 1956، وفي نفس السنة انتخب عضوا في المجلس القومي التأسيسي وأعيد انتخابه سنوات 1959، 1964، و1969 في مجلس الأمة، وفي سنة 1957 دخل الحكومة وزيرا للصحة، ثم أسندت إليه في الستينيات كل الوزارات الاقتصادية، وفي جويلية 1968 أضيفت إليه حقيبة وزارة التربية، كما كان في نفس الفترة عضوا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري وأمينا عاما مساعدا، ستبقى ذكراه منارة في ليالي الظلام التي تعرفها بلادنا اليوم لقد كان طالبًا لامعًا بالفعل، منذ صغره، كان ممتازًا في جميع المسؤوليات التي تولاها والتي تهدف الى تحقيق رغبات الزعيم الحبيب بورقيبة الذي تعهد له بالولاء والحب والاحترام، لقد تألق في مختلف المهام التي أنجزها ببراعة عقلية وهدوء أسطوري، كان يقوم بالواجب دائمًا بمسؤولية ورؤية عالية، ونكران للذات، أولئك الذين عرفوه سيتذكرون بالتأكيد صبره وانفتاحه، وقد عانى الويلات في جميع مراحل التزامه السياسي، الذي اختاره عن طواعية، ولطالما كان هدفاً للمنتقدين بكل أنواعهم، لكنه أحب منذ صغر سنه المواجهة وتبادل الأفكار، كل يشهد له بتفانيه في خدمة الصالح العام، وراهن عليه المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة وهو في عنفوان شبابه الى ان شاءت الاقدار والمكائد وخفايا القصر الى الزج به في النهاية الى المحاسبة الفردية، والحكم عليه بالسجن، والتاريخ سجل عبقريته وذكاءه، وحبه لبورقيبة، والاقتداء بمثاله وبعد نظره، والأجيال التي تحملت المسؤولية كانت تؤازر اختياراته، وتدعم سبيله، فخورة بالاتجاه الاشتراكي ومكاسبه رغم قصوره… لم يعد اليوم موجودًا بيننا، وتلك هي مشيئة الله، نشيّع جثمانه في خشوع الى مثواه الاخير، ويرافقه يأس كل من أحبه وعرفه وعمل معه، وحزن من عارضه، محترما اختياراته من أجل النهوض بتونس، الذي كرس حياته لها، مؤمن مخلص مدرك لخفايا الكواليس، وخيانة الاقرباء، انتصر في كل معاركه ضد التخلف، رغم الداء والاعداء، وخسر غزوة السياسة والمرض في آن واحد! يا له من حزن وذكريات لنا جميعًا، على مختلف أجيالنا واتجاهاتنا وعقائدنا! بالنسبة لي، مع اختفائه اطوي صفحة من حياتي، وينتهي فيلم أبدي، ارتبط بشخصه، كان لي شرف استقباله باسم الاتحاد العام لطلبة تونس، والترحاب به في "مون سيني"، دار الطلبة التونسيين في باريس، وهو كاتب الدولة للتربية، فجددت له تأييد الطلبة لاختيارات الحزب، الذي كان يعمل على ادخالها حيز التنفيذ، وبينت ان اختياره التزام لتفتح الجامعة على الاقتصاد، وهو رمز لمرحلة جديدة للاشتراكية الدستورية، ولما يمكن تسميته ب«البنصالحية" كما سماها "لاكتور" فقاطعني بكل لباقة، قائلا" اتركنا يا سي رجب من "لاكتور" وتخميناته، وبترخيص منه حضرت معه صحبة المرحوم محمد بوعواجة، طاب ثراه، في لجنة الدراسات الاشتراكية، والقى في احداها خطابا منهجيا حلل فيه الوضع بدقة، مبرزا نقاط الضعف، وكيف يمكن اصلاحها، ولم يعثر على هذا الخطاب البتة، واتهمنا بامتلاكه، ورغم كل الوسائل التي استعملها البوليس السياسي حتى التفتيش في مقام سكنانا في باريس لم تجدهم نفعا وكانت لي معه لقاءات قبل مؤتمر المهدية، حيث اختارني ككاتب عام لاتحاد الطلبة، وزرت صحبته تدشين تعاضدية في البقالطة، قبل ان يقع "استبعاد رجب حاجي بتشجيع من بعض النافذين في الحزب آن ذاك" كما شهد محمود مفتاح الامين العام للاتحاد العام لطلبة تونس (ودادية قدماء البرلمانيين التونسيين) وجاءت "وثيقة تونس ومنعرج 1969" لمؤسسة التميمي لمزيد الاضواء على المؤتمر، وللكتابة عن ملابسات مؤتمر المهدية بقية... استدعاني المرحوم بعد المؤتمر ليقترح علي الالتحاق بديوانه، او الرجوع الى باريس، والتمتع بمنحة بحث، فاخترت الخيار الثاني، وانقطعت المنحة بانتهاء مهامه من الحكومة كان المرحوم أحمد بن صالح سيدا في السياسة، فعالا في قناعاته، لعب دورًا جماعيًا طوال حياته، لأن الأنا بالنسبة له غير وارد، وعانى منه الامرين، وكان سبب نزوله الى الأسفل حتى السجن ومآسيه، لكن عاش من أجل تونس، وحلم بمستقبل مجيد لها مثل تاريخها، ويعتقد " أن التاريخ هو " مصفاة قاسية، هو أداة فعالة بأيدي الشعب، ولا مناص من حكم التاريخ ولا من حكم الشعب...) رسالة مفتوحة الى الرئيس بورقيبة 2 جويلية 1973) سيبقى سلوكه المسؤول منارة في الظلام الذي غزا بلادنا، ودمر اهلنا، واتى على مكاسبنا، كان المرحوم منظمًا في حياته، مخلصًا لصداقته، ديكارتيًا، مثقفًا، روج المثالية في التصرف والعمل بشكل جيد، وابتسامته الساحرة، وسخره اللطيف، وحبه للهزل من علامات روحه الإبداعية، زد على ذلك ذاكرته المذهلة، عاش محترما ولطيفا على الرغم من تقلبات الحياة، كان دائمًا حاضرًا في نقاط التحول الرئيسية في تاريخ البلاد.. وعزائي لتونس لفقدان سياسي متضلع فها، ومنارة لمستقبلها المجهول، كيف يعبر عن كل حزن من عرفك وعمل معك؟ لن تتحدث الكلمات عن معاناتهم، وبالتالي فإن عائلتك، وأولئك الذين رافقوك في خدمة تونس، والولاء لها لا غير، بجرأة وشجاعة، يجب أن يفخروا بجوانبك العديدة المتعددة، وأدعوهم لننفض غبار الحزن، لأنك حي عند الذي يحيي ويميت، وان كان فراقك صعب، ستضل الاجيال تذكرك، وتعدد خصالك، حملت تاريخا حافلا بالإنجازات، ففي محياك اجلال الكبرياء، وعظمة الانفة، ومجد الشجعان، فنم هادئا " يا سي أحمد" انك خالد، وانعم بوجه ربك راضيا، وانا لله وان اليه راجعون "يا أيّها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيّة مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي" صدق الله العظيم