إدارة ترامب تصدر قرارا بشأن الهجرة وتفصل قضاة مكلفين بها    المنتخب الوطني يواجه نظيره الفلسطيني بالزي الأحمر    وزير الفلاحة: قانون الاستثمار التونسي يوفّر امتيازات هامة للمشاريع التي تعتمد التكنولوجيا الحديثة تصل إلى 50 بالمائة من قيمة الاستثمار    النفطي : احتضان تونس لقمة الذكاء الاصطناعي يعكس إرادة سياسية لتعزيز دور التكنولوجيا في دعم التنمية الشاملة    "ضاع شقا العمر".. فضيحة على متن طائرة أثيوبية قادمة من السعودية    عاجل: أمريكا تعلن تعليق شامل لطلبات الهجرة من 19 دولة..    أرقام صادمة.. مقتل 45 ألف طفل سوداني واغتصاب 45 قاصراً بالفاشر    التيار الديمقراطي يصدر بيان هام للرأي العام ويدين..#خبر_عاجل    مفاجأة المونديال 2026: فيفا يغيّر قواعد الVAR... الركلات الركنية في خطر!    كاس التحدي العربي للكرة الطائرة - المنتخب التونسي يتوج باللقب    تهمّ هؤلاء فقط: بلدية تونس تنظّم رحلة عمرة بأسعار تفاضلية    عاجل/ السجن لأجنبي وزوجته بتهمة ترويج المخدرات..وهذه التفاصيل..    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..أمطار غزيرة بهذه الولايات…    مداهمات أمنية في الزهروني تطيح بعدة شبكات وعصابات إجرامية    ابنة نور الدين بن عياد توضّح: "المنجي العوني أوّل من قدّم لي التعازي"    جندوبة تستقبل أكثر من 1.4 مليون سائح جزائري... وقطاع السياحة ينتعش بقوّة    سعيّد: الشراكة مع اليابان استراتيجية... و'تيكاد' يعزز مكانة تونس في إفريقيا    كأس إيطاليا : يوفنتوس يتأهل الى الدور ربع النهائي على حساب أودينيزي    طقس اليوم: أمطار غزيرة بعدة جهات مع تساقط للبرد    عاجل/ صادق عليه البرلمان: اعفاء هذه الفئة من خلاص معلوم الجولان لهذه السنوات..    الشيخوخة تبدأ من "البنكرياس".. فحاول الابتعاد عن 3 عادات شائعة..    قيس سعيد يتعهد ب'حرب تحرير' ضد الفساد في قطاع الصحة    بعد إقرار عفو جبائي: وزيرة المالية تعلّق...سيتخلف من انخرط في عفو سابق عن الخلاص    إدارة ترامب توقف رسميا إجراءات الهجرة والتجنيس من 19 دولة    تركيا تعلن اعتقال 58 شخصا بتهمة الانتماء لحركة الخدمة    كأس العرب 2025... الجزائر والعراق والأردن في اختبارات قوية اليوم    تقدّم أشغال بناء عدد من المستشفيات، أبرز محاور لقاء رئيس الجمهوريّة بوزير الصحة    رئيس الدّولة يسدي تعليماته بتذليل كلّ العقبات لاستكمال إنجاز أشغال عديد المشاريع في أقرب الآجال    لاليغا الاسبانية.. برشلونة ينتصر على أتلتيكومدريد ويحافظ على الصدارة    تفتتح بفيلم «فلسطين 36» ..تفاصيل الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية    انتخاب المديرة العامة للخطوط التونسيّة نائبة أولى لرئيس اتحاد شركات الطيران الإفريقي    الليلة: اجواء باردة وأمطار غزيرة بهذه المناطق..    حدث فلكي أخّاذ في ليل الخميس المقبل..    تراجع مخزون السدود يُعمّق أزمة المياه في ولاية نابل    الجيش الألماني يتعرّض للسّرقة!!..#خبر_عاجل    العرب قطر 2025: المنتخبان السوداني والجزائري يستهلان مشوارهما غدا الاربعاء    ديمومة الفساد... استمرار الفساد    مجموعة تركية تعتزم الاستثمار في زيت الزيتون التونسي..#خبر_عاجل    شنوا يصير في بدنك كان تزيد القرنفل للتاي في الشّتاء؟    موش الشوكولا برك.. أكلات ترجّع نفسيتك لاباس    نحو ارساء منظومة إسترسال ملائمة لنشاط الزربية والنسيج اليدوي في تونس    عاجل - كأس العرب: شوف مباريات اليوم و القنوات الناقلة    عاجل: مدينة العلوم بتونس تكشف موعد ''رمضان'' فلكيّا    اكتشاف الطفرة الجينية المسؤولة عن الإصابة بالأمراض العقلية..    المنستير تستعد لاحتضان الدورة 29 لمهرجان خليفة السطنبولي للمسرح من 6 إلى 13 ديسمبر الجاري    بدأ العد التنازلي..هذا موعد شهر رمضان فلكيا..#خبر_عاجل    منوبة: تركيز فضاء للمطالعة الرقمية بالمكتبة العمومية بطبربة    حريق متعمّد يهزّ مستودع شركة النقل بالساحل... والأمن يطيح بالفاعل!    نسبة الفائدة تنخفض الى أدنى مستوى منذ 2023!    البريد التونسي يصدر سلسلة طوابع جديدة تحت عنوان "نباتات من تونس"    الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية تكشف عن قائمة المسابقات الرسمية لسنة 2025    وزارة الصحة تبحث شراكة دوليّة لتحسين رعاية مرضى الهيموفيليا    استمرت أقل من 15 دقيقة.. كواليس مكالمة ترامب ومادورو    سيدي حسين: تفكيك شبكة خطيرة لترويج الأقراص المخدّرة ومواصلة الحرب على الجريمة المنظمة    وزارة الثقافة تنعى صاحب دار سحر للنشر الأستاذ محمد صالح الرصّاع    أيام قرطاج السنيمائية الدورة 36.. الكشف عن قائمة المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة    بنزرت: مكتبة صوتية لفائدة ضعيفي وفاقدي البصر    ابدأ الامتحانات بثقة: دعاء يحفظ المعلومات في عقلك وذاكرتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد نجيب عبد الكافي يكتب لكم من مدريد: رواية صالح الحاجّة «حرقة الى الطليان» تستحق القراءة
نشر في الصريح يوم 26 - 09 - 2020

كان لي صديق خريج جامع الزيتونة المعمور، اسمه علي الخالدي رحمه الله. كان من أهل الجريد الميامين، فاتصف بأبرز خصالهم، خفة الظل، طلاقة اللسان، والخلق الكريم. وكان طبعا يجيد المزاح البريء، يأتيه وهو جاد أو يبدو كذلك. وقفت عليه يوما وهو جالس في مقهى، فطلب مني الجلوس فاعتذرت وأعطيته السبب، فعلّق بإحدى "طلعاته" فأضحكني فقلت: ما أكبر كلامكم يا أهل الجريد!
فأجابني في الحين، باللهجة الجريدية اللطيفة التي لا أستطيع تقليدها ويا للأسف، وقال: وما هي الكلمة التي أتينا لك بها فوق جمل؟ قلت هذه، وانصرفت. كان يعمل مصحّحا بجريدة الزهرة اليومية، أيام كانت الصحف لها مصحّحون يراجعون كل ما ينشر تحسبا لأية أخطاء لغوية أو نحوية صرفية أو مطبعية، فتصحّح. كنا نلتقي كثيرا ولنا جلسات أدبية صحبة رفاق آخرين. ذات يوم، بينما نحن في خضمّ الحديث والنقاش، فأشير إليّ لسبب ما، وإذا بأخي علي يقول: هذا، " نزل من رحم إمّه وبيده كتاب." حوّل هذه العبارة إلى اللسان الجريدي، ستجد المتعة التي أدخلت علينا كبير السرور. قال ذلك وصدق فيما قال، لأني قليلا ما أخرج أو أظهر بلا كتاب في يدي، إلى يوم الناس هذا. فالكتاب رفيقي الملازم، أطالعه وأستشيره، في الحافلة والقطار والمقهى، وفي أي مكان وزمان، منذ أن تعلمت القراءة. أذكر أني طالعت، وأنا لم أكمل الثانية عشرة من عمري، روايتين من أشهر ما كتب، إحداهما ألمانية والثانية إسبانية، لكني قرأتهما مترجمتين إلى الفرنسية. الألمانية هي "فاوست" وهو اسم بطلها الذي باع روحه للشيطان، فهي إذن فلسفية دينية، وجزؤها الثاني فلسفي اجتماعي، وللقارئ أن يتصوّر ما الذي فهمته منها آنذاك. الثانية هي الأخرى من أشهر ما كتب عالميا، ترجمت حتى الآن إلى مائة وأربعين لغة، وما هي إلا " دون كيخوتي دي لا مانشا " تأليف الكاتب الإسباني الشهير ميغال دي ثربانتس، ذات الجزئين هي الأخرى، ظهرت لأول مرّة في منتصف القرن السادس عشر. للدلالة على ما استوعب وفهم ذلك الطفل، وهو يستعد لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، من القصة، أذكر أن " لامانش" حسبته المضيق الفاصل بين فرنسا وبريطانيا، وما هو في الحقيقة سوى منطقة في وسط إسبانيا والاسم – لا مانشا - من أصل عربي. لكن كبرت واتسعت معارفي والحمد لله، فأعدت مطالعة العملين طبعا، لكن بلغة كل منهما الأصلية، وبعقل دارك وعلم أغزر وأوسع.
ذكرت كلّ هذا لأني طالعت مؤخرا قصة جيّدة بقلم السيد صالح الحاجّة، لم أستطع تصنيفها وتحديد نوعها لأنها...لكن لا! قبل أن أسترسل سأستسمح مهلة لأذكر ما وصل إليه فن كتابة القصة في عصرنا. هي، كما هو معلوم، حكاية مكتوبة طويَلةٌ تُستمَدُّ من الخيال أَو الواقع أو منهما معاً، وتبنى على قواعد معيَّنة من الفن الأدبي. لها تسميات عدّة، منها السرد، الحكاية، الخرافة، وأسماء أخرى لها صلة بموضوعها وفحواها. أدّى تطورها إلى اعتناء النقاد فخلقوا لها أنواعا وأصنافا بشروط وقوانين. فهي قصة التحليل النفساني، وقصة المغامرات، وحيل الصعاليك، والمذكرات، والتاريخية، وما لا شك قد نسيت من أشكالها. أما مؤلفها فهو إما بطلها الأول، أو إنه الراوي والحكم، فتأتي محملة بالمسرات أو بالأحزان، أو بالآلام، أو بالنعيم أو الشقاء، وواضعها جزء مباشر من كل ذلك، أو هو متفرّج ينظر من عَلٍ.
قرأت القصة بشغف وعناية، لأن عنوانها هو الذي دفع بي للحصول عليها. وكما هي عادتي، طالعتها وقلم رصاص بيدي، أسطر به عبارة أو جملة أو حكمة أو وصفا أعجبني ونال استحساني، قد أستشهد به أو أنقله أو أقتبسه يوما في كتاباتي. فعنوانها الذي جلبني أخطأت فهمه، وكثرة ما استوجب إبرازه بسطر تحته جعلني أعدل، وتقييمي أو تصنيفي إياها إلى الآن لا أزال أبحث عنه، وعجزي في بحثي أشد من نجاحي. عنوانها حرقة الى الطليان، قرأتُه خطأ بضم الحاء، فأصبح من معانيه " ما يجده المرء من لذة الطعم أو الحب أو الحزن، بينما هي اصطلاح جديد كنت أجهله، يعني تلك المغامرات المحزنة، طلبا لهجرة غير شرعية أدت بحياة الكثيرين. كفى هذا بأن ألتهم القصة، لأني أقيم ببلد يجابه يوميا مئات المهاجرين فينقذ، ويعالج، ويأوي، ويرجع، ويحتضن الحوامل، ويبقى في حيرة مستمرة. أما الجُمل والعبارات التي بدأت تسطيرها لحفظها فكثرت، يكفي أن أنقل إحداها ترجمةً لما أقول وهي أجد نفسي مع نفسي أبكي على نفسي. أو هذه يتحدث بها عن والدته التي عاشت فقيرة عليلة فيقول بطل الرواية: ومرورها بالحياة كان كطيف النسيم. أما عندما جلس وهو ببلاد الغربة، أمام وليمة بها كل ما لذ وطاب مما لم يُطْعَمه في حياته، تذكر أمّه المحرومة المتوفاة، فعبّر لها عن أسفه وقدّم للقارئ جملة تجسّم الأم وتضحياتها وحنانها إذ أجابته لا عليك، تمتّع أنت الآن بهذه المأدبة وكن على يقين من أني سأتمتّع أنا أيضا.
لا أزال، كما سبق القول، أبحث عن تصنيف هذه القصة ووضعها مع شبيهاتها، لأنها مع استجابتها لكل شروط كتابة القصة الجيدة، هي في الواقع مجموعة قصص، لأن كل فصل أو باب منها، قصة قصيرة بتمهيدها، وأحداثها، وتشويقها، وعقدتها، وحل العقدة، ولو أن الكاتب ترك ذلك، في بعضها، لتكهنات القارئ وفهمه، فيستمر التشويق. فهي إذن أكثر من عشرين قصة في قصة، أبطالها البارزون كثيرون، ويبقى الكاتب كبطل أساسي لأنه مشارك في جميع الأحداث – أكثرها مؤلمة محزنة – وهو أيضا الراوي، يسرد بأسلوب عربي فصيح، سهل بسيط، مزركش بجمل وعبارات شعبية من اللسان التونسي القديم البليغ، فازدادت القصة تعبيرا وجاذبية وإتقانا. لماذا عجزت عن تصنيفها، لأنها، علاوة على تعدّد القصص فيها وضمنها، هي كلّ أصناف وأنواع القصص مجتمعة. فهي السيرة الذاتية، والمذكرات، والمغامرات، والتحليلية النفسانية، وفوق كلّ هذا هي تاريخية اجتماعية. لقد سرد الكاتب السيد صالح الحاجّة، وصفا مدقّقا بليغا لمرحلة من تاريخ تونس، تلك التي تلت الاستقلال مباشرة، فصوّرها وصوّر المجتمع التونسي ونفسياته، كما لم يفعل غيره حتى الآن. والجميل البليغ، هو أن الكاتب لم يذكر أسماء ولا اتهم أشخاصا معيّنين. بل نقل بصدق ووضوح، حالات واقعيّة، وما كان يفكر ويشعر أصحابها ومثيروها وضحاياها، فيعبّرون بلسان تونسي بليغ، فازدادت الصورة وضوحا، والتحليل النفساني الاجتماعيّ فهما ورسوخا، فمكّن القارئ من الاطلاع على ما جهله أو تجاهله، ومعرفة ما كان يمرّ عليه وهو عنه معرض، فيكتشف، كما اكتشف أحد الأبطال البارزين في القصّة – العم إبراهيم – فلسفة الشعب الكادح التي لم يعرفها، رغم أنه أستاذ فلسفة.
إن حرقة إلى الطليان التي جادت بها قريحة الأديب السيد صالح الحاجّة ووجدانه، عمل جيّد، يدعو ويدفع إلى التأمّل والتبصّر وأخذ العبرة، من واقع يعيشه الشعب التونسي يوميا ونحن عنه غافلون. فإن فعلنا، فقد حقّقنا بعض ما يمليه ويأتي به الأدب، وربما ما قصده الكاتب اللامع. لم يكن هذا، أعني القصة وما حوته، سوى الطبق الرئيسي من المأدبة" القرائية أو المطالعية" إذ جاءت بعدها المرطبات المحليات، في كتيّب آخر عنوانه " عشرون تمرة " وأضاف جريدية، كي تفتح الشهية فيسيل اللعاب. سال لعابي، غير أني وجدت العدد ولم أجد المعدود. وجدت عشرين ولا تمرة، لكني تمتعت وتلذذت عشرين حادثة، عشرين طرفة، عشرين حكاية، عشرين كذبة، جاءت نقلا صادقا للوحة بل صور اجتماعية، سمها ما شئت، فهي سرد ووصف ونقد وتحذير، بأسلوب عربي سليم، خفيف بسيط، يفهمه ويستلذه العارف والأقل معرفة، وزركشه الكاتب بجمل ومفردات وتعبيرات بليغة، من لهجتنا الشعبية، فجعلني أراجع رأيي المتصلب المحافظ بخصوص لغة الكتابة القصصية ومعها مشاكل الترجمة. لكن هذا لحن آخر قد نتناوله يوما. أما الآن فسأشكر الأديب صالح الحاجّة على ما أهداني من جديد معرفة واطلاع، وكشف واقع لا يلمسه إلا المكتوون بناره. فسنبقى ننتظر المزيد لأن القصة من "الأسلحة" الأدبية التي تقاوم كلّ عنف وضرر، خاصة ما تأتي به السياسة.
مدريد في 14-9-2020.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.