ما أروع أن تلتحم أحرف كلمة –" صداقة"- مع بعضها: فالصاد: صراحة و الدال: دلال وسيد الحروف (ألا لف): أمان، و القاف: قوة: و التاء: تعبير. كنا مع بعضنا واقفين قبل أن ننطلق نحو منزل صديقنا حمادي، لندشن مقر سكناه الجديد: كمال صامت في بدلته القرمزية كأنه " سيد قوم" في إنتظار استقبال فخم، و أحمد كأنه شرطي مرور: يجول بناظريه يمنة و يسرة و لست أدري عما يبحث في ساعة مثل الثامنة ليلا! و حمادي المضيف من حين لآخر يرفع يده اليسرى ليرتب شعره الذهبي و يبتسم في خبث و دهاء: لعله يخبئ لنا- مفاجأة التدشين و محمد يتحرك بقلبه الأبوي و يقهقه من حين لآخر و يمد يده معبرا عن تأييده لنكتة يهمس بها له أحمد.. لم أكن أعرف أن وقوفي بين هؤلاء الصناديد يعني شيئا.. كنت تائها، فاقد الذاكرة ،أسأل نفسي فلا تجيب، ألهث واء فكرة فلا ألحق بها. أضرب باب مذكرتي فلا أحد يجيب؟ أنقذت نفسي من الوجوم و حملقت في وجه حمادي النير و همست له: من الآن ستكون " حمادي صراحة" و أما أنت يا أحمد فستصبح أحمد دلال و انت يا محمد من الآن فصاعدا ستتنازل عن لقلبك لصالح الأمان فتصير محمد أمان، و أما أنت يا سيد القوم يا أيها القائم ببدلتك القرمزية سنناديك كمال القوة... فهللت وجوههم و لم ينبسوا ببنت شفة، فرفعت صوتي مناديا: " من منكم غير موافق؟ فرد الجماعة:" موافقون... موافقون"... و التفت إليّ أحمد و قال: • و أنت من تكون: محمد من؟ طأطأت رأسي و همهمت:" من أكون غير ما أنا عليه الآن،عابر سبيل، عابر حياة، إنسان يمضي عمره، بين أنة و أخرى، و بين جلسة جدلية و أخرى، و بين وجع و آخر و بين مأساة و أخرى. • لا... لا... سوف نطلق عليك محمد تعبير! - نزولا عند رغبتكم أقبل و أرضخ لأمركم لأنكم جماعة، و مهما كان رفضي فقبول رفضي لن يكون له مكان عندكم لكن أخبروني عما سأعبر في عصر تغير فيه قاموس التعبير، من عبر عن مشاعره العاطفية قالوا: مراهق...مراهق " آخر زمان" يا له من مسكين، ؟ من عبر عن إحساسه إزاء وطنه قالوا: سيهاجر وطنه أو هو مهاجر زاده الخيال! ؟ من عبر عن قلقه و تبرمه من الحياة " الضنكة" قالوا: هارب من الحياة... فالحياة جميلة و رائعة! من عبر عن ألمه و وجعه قالوا: مسكين، موته خير من حياته، و لا أحد يمد له ربع نصيحة يسد بها رمق تعبه! من عبر عن رأيه بمقالة جياشة قالوا: معارض و يجب أن يزج به في زنزانة، و لا يسمح له بمطالعة الجرائد ، من عبر عن تأثره بمجزرة صبرا و شاتيلا قالوا: يبكي كأنه امرأة، في حين أن قلوب النساء تحجرت و أصبحت كالصخر... من عبر عن نشوته و سعادته بضحكة او بسمة قالوا: قلبه فارغ لا يعبأ بالحياة و بمشاكلها! من عبر عن حبه افتكوا منه حبيبته و صلبوه على قارعة الشّرف. .. من عبر عن تعبيره بعبارات العبارات، قالوا: مخبول، لا يعرف من أين يأخذ ناصية الحياة. .. من بكى في جماعة، قالوا له: من فقدت من العائلة؟... في حين أن الإنسان العربي يفقد كل ساعة كرامته، و شهماته، و عروبيته، و لا نسأل عن حاله، و عن حالنا؟ من؟ من ؟... ضاق صدري و صرت لا أتحمل همسة همسة، أو قبلة دافئة أو ضحكة او كلمة صامتة، صرت أخير صمت السكون الحزين على الكلام... و أجهشت بالبكاء! ودفنت رأسي بين يدي لحظة ومسحت دموعي ..... و سرنا نحن أشبال الصراحة: " قوة التعبير في أمان و دلال"... نحو قصر حمادي صراحة: يرافقنا... " الصمت"! كان النهج المؤدي إلى مقر سهرتنا ضيقا أضيق من تفكير جيل قريتي! و آثار المطر مازالت عالقة بحذائي المتداعي،،، فالطين حاضر دائما، و الماء الراكد حاضر دائما، و جامد لا تزحزحه إلا ريح مجففة! خفت على حذائي من الإنزلاق في شارع دامس أظلم حالك: لا تنقصه إلا " عصابة" لتفاجئنا بصرخة: إرفع يديك؟ و الله لو فعلوها، لطلبت منهم أن يرفعوا " ساقي" من وحل هذا الغدير الراكد و أجرهم على فقر جيبي! كنا نسير صامتين، ... حين فتح على يميننا فجأة باب، فقفز أحمد مترا إلى الأمام، و تلعثم حمادي في ترديد " يا ست...تار" يا ستار" و محمد شد على قلبه،،، بيد من جزع و فزع و كمال نط إلى جانبي و هو يردد " سب حان...ك .. سبحانك.. سبحانك ربي سبحانك... ربي يا لطيف.. " أما أن فوقفت جامدا متسمرا في مكاني: ( الشهادة جمدت في حلقي،،، و شريط ذكرياتي انقطع، و تنفسي ضاق و أحلولكت الدنيا أمامي في الزقاق الأدهم الملعون) .... و ما راعنا إلا كلب شرس: يقف على أهبة ألانقضاض على أول فريسة آدمية: ( جامدة من مفجأته القاتلة) و لولا: نباحه الذي أنقذنا من جمودنا و أغرقنا في بحيرة من الضحك لمتنا ليلتها من " هول الفاجعة الكلبة" و لأصبحنا شهداء نهج الصراحة! من يدري: ربما يكون لهذا الكلب " الكلب" شأن في الترويع و التخويف: فكم من فأر " قتل" فيلا! و تراجعت إلى الخلف فأبصرني حمادي فهمس لي: إلى أين؟ إلى حيث لا قطط و لا كلاب و لاترويع و لا تخويف و لا رعب إلى منزلنا!