المجلات الثقافية والأدبية فخر الأمم وأحيي بهذه المناسبة قطر على استمرار صدور مجلة (الدوحة) والكويت على تواصل صدور مجلة (العربي) فهي منارات تعلم منها ملايين شباب العرب ولكن أم هذه المجلات العربية بعد (الهلال المصرية) هي مجلة (الفكر) التونسية التي نحتفل اليوم بذكرى ميلادها الرابعة والستين وهي المجلة الرائدة التي أوقفها نظام الاستبداد والجهلوت يوم انتصابه في تونس في نوفمبر 1987 كأنما شعر أن الفكر عموما يهدد الطغيان! لم ينس بعض المثقفين التوانسة هذا الشهر مجلة مجاهدة في ذكرى بعثها عام (1956) وهي مجلة (الفكر) التي أسسها وأدارها الوزير المثقف محمد مزالي رحمة الله عليه على مدى ثلاثين عاما و نفس هذه الذكرى هي أيضا – و يا لبؤس الثقافة- ذكرى موت المجلة سنة 1987 حين وصل زين العابدين بن علي الى السلطة فتوقف إصدارها و إلى الأبد. و كنت أنا صحبة الصديق محمد مزالي في منفانا الباريسي بإرادة الحكام الجدد الذين أبعدونا و قتلوا المجلة شعرنا في منفانا أنذاك أن صفحة نيرة من الفكر التونسي و العربي طويت بأيدي الذين أعطوا بعد نفينا للثقافة معاني أخرى اقتصرت على الرقص و الغناء و دق الطبول وهز البطون حتى سمعنا عن الدكتورة فلانة في فنون الرقص و الدكتور فلان في النوتة الموسيقية و قلنا في منفانا أن زمننا نحن انقضى و مضى و رحم الله إمرء عرف قدر نفسه و انسحب (أو سحبوه) خارج الوطن و خارج ثقافته الجديدة المبشر بها في عهد التحول . كانت مجلة (الفكر) منارة بشهادة عدد كبير من الباحثين احتضنت إنتاج الكتاب التوانسة و المغاربيين و العرب و قامت بأداء رسالة تاريخية وهي تعريف المغاربيين بقضية فلسطين و بالكتاب المشارقة و تعريف أشقائنا المشارقة بالفكر المغاربي و بقضية تحرير الجزائر و لم تكن الجزائر استقلت بعد بل دشن المجاهدون فيها عهد المقاومة المسلحة المباركة كما أن تونس والمغرب لم يستكملا بعد مقومات استقلالهما. فكانت (الفكر) رسالة شهرية جريئة في الوطنية و الكفاح إلى جانب دفاعها المستميت عن اللغة العربية و أصالة شعوبنا وأداة التعريف بأمجادنا و التبشير بتحررنا الكامل ثقافيا و حضاريا رغم تصادمها مع التوجهات التغريبية البورقيبية السائدة رسميا. ثم إن (الفكر) لم تتردد في نشر النصوص الأدبية الأكثر طلائعية وإبداعا رغم تصادمها مع التوجهات التقليدية السائدة أدبيا فكسرت (الفكر) بعض أصنام القديم الموروث المتداول لتساند نصوص كتاب مجددين ثبت مع الزمن أنهم يعبرون بصدق عن روح العصر وضمير أمتهم أمثال البشير خريف وعز الدين المدني والحبيب الزناد وفضيلة الشابي و الطاهر الهمامي و فريد غازي و غيرهم كثيرون ممن لا أستطيع ذكرهم و تعدادهم. و هؤلاء هم أباء الطليعة الأدبية الراهنة التي ما تزال تبدع و لا بد من القول أننا عندما فتحنا عيوننا نحن جيل ما بعد الإستقلال أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا و حضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الإستقلال فأسسنا تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب و يرفض التغريب داخل الحزب الدستوري إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى و كان زعيم هذا التيار هو المناضل الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه و قد إجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لواحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987إغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستيرمسقط رأس بورقيبة و تاريخه حافل بالإنجازات و خدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية و أثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم و الآداب و الفنون و الفلسفة و السياسة بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو و فولتير و فيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا و تقليص معرفتنا لتاريخنا و بالتالي نشأ جيلنا و هو جاهل تقريبا بكل ما و من صنع هويته و أسس حضارته فقد غادر الإستعمار أرضنا و ظل مستعبدا أرواحنا و وجداننا. و شاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الإستعمارية الجديدة تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الإستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الإضطهاد و الملاحقات و المنافي والسجون غفر الله لمن شردنا و أجهض رسالة التغيير و التأصيل. و في الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد إعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي. و هذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة إلتقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها و لا ضدها وهو الخيار الأخطر. ليس من الأمانة العلمية أن نعلن انفرادنا نحن العرب بإستعادة الوعي بقضية الحضارة و ملف الهوية فالعالم من حولنا شرقا و غربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية مع إختلاف المنطلقات و تباين الأهداف. فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي و توسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية و ذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبرالية العلمانية على ما سواها و دعوة الأمم الأخرى للإستسلام الحضاري و التسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.