في حلقةٍ فريدة من البرنامج الإذاعي الشهير "ألوان وأجواء" ، فاجأَ نجيب الخطاب الإذاعيَّ الكبير صالح جغام زميلَه اللدود – أوهكذا كان يُخيّل لنا- ، بزيارة إلى بيته في شارع فلسطين، وكان موفدُ البرنامج الصحفيُّ القدير ذو البصمة الإذاعية النادرة جميل الدخلاوي يصف بكثير من الدقة والشاعرية والصدق دخوله من غير ما موعدٍ إلى بيت كل ما فيه كان يُنْبئ عن معاناة صاحبه مع الفكر الأصيل والثقافة الحرّة وأشرطة الكاسيت المهرّبة والأدب الجادّ والقومية الطوباوية ، وكان مما قال في وصف أجواء البيت ورهافة اللحظة: إن الميكروفون يرتعش بين يديّ وأنا أدخل هذا المكان. كلما أعدتُ الإصغاء إلى هذا المسمع أحسستني طائرا في ملكوت الذكريات خفيفا كقشة واهية، عظيما كلحظة حبّ، لا أقوى على مغالبة الدموع وهي تكرج من عينين مشدوهتين ذاهلتين فتغسل صحراء الروح الخاوية، لست أدري متى حدث ذلك على وجه الدقة، فليس هذا بمهمّ، إنما هي لحظة عاطفية قوية جارحة تختصر عمرا من الأشواق والذكرى وترفرف فوق الزمن وأبعدَ من النسيان، بل إن خشخشة المذياع القديم تطلع من أقبية الروح مثل أصداء الأمواج الهادرة و تتفتّت على قارعة الزمن تاركة رغوة بيضاء ناعمة تتلاشى في الهدأة شيئا فشيئا، ولن تتمالك نفسك وأنت تسترجعُ هذه اللّحظةَ الإذاعية مراتٍ ومرات من أن تبكيَ مثل كمنجات محمود درويش على زمن لا يعود. تلك اللحظةُ كانت من تدبير القدر، ولا أخال مبتدعَها إلا وقد كان مدفوعا بإيعاز غامض قوي طلع من أعماقه فلم يسمع له صوتا، إنها لحظة مكاشفة ومصارحة تحدّثت فيها القلوب بعفوية طافحة وتصافحت فيها المشاعر وكأنها اعتراف تلقائي من الرجلين بأن ما بينهما ليس إلا حبّا أما الزبد فيذهب جفاء. كان ذلك قبيل رحيلهما بقليل ولكنه الآن يبدو صوتا أثيريا طالعا من رحم الأبدية مثل ذكرى بيضاء ناصعة أو قبلة عالقة في الهواء أو قصيدة حب صوفية لم تكتمل فأضحت صدى يتردّد بخشوع في المطلق.