أتاح لي العمل في مزرعة المرأة الايطالية التي تمسح عشرات الهكتارات وربما المئات أن اطلع على واقع الحارقين اطلاعا واسعا لم أكن أعرفه من قبل. وعندما أصف هذا الواقع بالبشع والفظيع واللاإنساني فإنني سوف أكون مقصرا. ماذا يجب عليّ أن أقول لأصف الحقيقة. إن الكلمات تخونني عندما أريد أن أصف وأن أقول حقيقة كل ما رأيت. وعندما كنت أرى كنت لا أجد إلا الدموع كوسيلة تعبير، إنها وحدها التي تنقذني من البشاعة التي رأيت عليها الشباب الذين حرقوا. أما كيف كانوا يتحملون أوضاعهم أما كيف كانوا يتعايشون مع البؤس والعذاب والاحتقار أما كيف كانوا يصبرون.. ومع ذلك يستطيعون أن يشتغلوا وعندئذ فقط فهمت لماذا كانوا يشتغلون ساعة واحدة ويتوقفون ثلاث ساعات معهم حق إنه شيء فوق طاقة الاحتمال خصوصا في الشمس الحارقة أو في البرد وكأنه برد الألاسكا الذي عرفته ذات مرة وعشت فيه يوما كاملا ولم استطع أن أكمل الثاني فهربت ونجوت قبل أن أموت. كانت تجربة فظيعة.. وقد عشتها وأنا في طريقي الى بيكين عاصمة الصين. ومنذ ذلك الوقت قررت أن لا أعود الى الألاسكا حتى لو يقولون أنني سأجد بها ثروة في انتظاري ولعنة الله على الثروات فكم أحنت أعناق الرجال وأذلت الكبار ومن كانوا يحسبون أنهم بأموالهم فوق البشر. كنت أذهب الى المنطقة التي تقع في خلفية المزرعة والتي يقيم فيها عمال المزرعة وهم أغلبهم من التونسيين والمغاربة فلا أتحمل الأكواخ الطينية والقصديرية التي يسكنون فيها. إن في الكوخ ينام العشرات وكأنهم حشرات ولا تكاد تمرّ ليلة دون أن تقع فيها خصومة لابد أن تسيل فيها الدماء. وقد لاحظت على الكثيرين منهم إما أن أسنانهم الأمامية غير موجودة أو أن رؤوسهم منتفخة أو أن عيونهم مطمطمة لأن الضرب والبونية تترك آثارها فوق وجوههم وحتى أجسادهم. إن لغة العنف هي اللغة السائدة بينهم. كنت أقترب من هذه الأكواخ فأرى البؤس قد تجسد فيها حيث الأوساخ والقاذورات والملابس الممزقة والقديمة التي يضعونها أمام الأكواخ لتجففها أشعة الشمس. عندما كنت أقترب وأشم رائحة كل ما هو كريه وقوارير البيرة الفارغة اصبحت مثل الجبل الشاهق أهرب وأعود وأكاد أقذف ما في بطني. وعندما بدأت اشتغل واشرف على عملهم كنت قاسيا معهم الى حدّ كبير فتضاعف انتاجهم مما أسعد المرأة صاحبة المزرعة.. ولكنني ما إن اطلعت على ظروفهم الصعبة تراجعت.. والتمست لهم العذر. ولما سألت البعض منهم لماذا يتحملون كل هذه الأوضاع البشعة والعذاب والبؤس والشقاء قالوا لي أنهم يتحملون ذلك لأن ليس لديهم أوراقا قانونية فهم يشتغلون في «النوار» ولذلك يتحملون ومن يعترض أو يطوّل لسانه فإن صاحبة المزرعة بمجرد مكالمة تليفونية يجد نفسه بعدها مباشرة وبسرعة في السجن ثم يقع ترحيله. قال لي أحدهم وهو شاب وسيم وعلى خلق ومهذب: «شوف خويا العزيز ما يلزك على المرّ إلا إللي أمرّ منو».. وأضاف شفت خويا الإنسان اللي قدامك يخدم على أم مقعدة وأخت كفيفة.. والوالد مات رحمة الله عليه.. دهسه ذات يوم قطار حمام الأنف.. قطع السكة وهو مشغول البال بوضعي وببطالتي فالتهمه القطار.. وعندما حملته الى المستشفى بين حياة وموت اعترف لي بأنه كان «يخمّم فيّ».. ومشغول البال عليّ فلم ير القطار.. وأوصاني على والدتي وأختي. وسألني الشاب المهذّب وهو ينظر إليّ نظرة دمرتني بما فيها من إنسانية وضعف واستسلام للقضاء والقدر: هل فهمت لماذا أنا أتحمل كل هذه الأشغال الشاقة. إنني أتحملها من أجل ليرات قليلة أحولها كل شهر الى تونس لأحمي بها امرأة عاجزة وفتاة معاقة.. وأؤكد لك أن ٪90 من الذين تراهم هنا لهم أوضاع أصعب وأعقد من وضعي.. دمرني الشاب بحكايته.. ثم هربت من أمامه لأنزوي في ركن ما من الحديقة وأنخرط في البكاء. هل كنت أبكي على هذا الشاب التعيس؟ أم كنت أبكي على نفسي لأنني وجدت نفسي في هذا الشاب؟ أم كنت أبكي على أمي التي تركتها تواجه الحياة بمصاعبها واعبائها وظلمها وقهرها خصوصا وهي أم ليست مثل الكثيرات من الأمهات فهي امرأة هشّة.. وضعيفة.. وأمراضها لا تنتهي.. وتدخل المستشفى لتعود اليه بأسرع ما يمكن من الوقت. لم أعرف لماذا كنت أبكي ولكنني كنت أبكي وبحزن ومرارة تذكرت وأنا أبكي عندما كنت صبيا ولا أجد ثمن الكتب المدرسية ولا ثمن الحذاء ولا ثمن اللباس المدرسي الذي كانوا يفرضونه عليّ. وعندما كنت أحصل على اللمجة التي يعطونها لنا نحن أبناء البؤس.. مصحوبة بكوب من الحليب كنت أشعر بالذلّ وكنت أتساءل يوميا لماذا لا أستطيع أن أشتري ما يشتريه بقية زملائي من أمام المدرسة من زلابية.. ومقروض وحلوة الحمص.. و«با بالوني».. وفطاير بالعسل. كنت أنظر الى كل ذلك وأتشهى فطيرة بالعسل يوميا ولكنني لا أستطيع الحصول عليها فأنا دائما جيوبي فارغة.. وبعد أن جفت دموعي عدت مرة أخرى الى منطقة سكنى العمال فوجدت أكثر من معركة وانطلقت العصي.. وهناك من كان يهدد باستخدام الفاس.. وكانت كأنها حرب بين فريقين سببها أن أحدهم وهو تونسي من الكاف قال كلاما مؤذيا لتونسي من ڤفصة فأحس الڤفصي بالاهانة ورأى في كلام الكافي استنقاصا للڤفاصة فانقسم العمال الى قسمين قسم يناصر الكاف وقسم يناصر قفصة وهات يا سبّ وشتم وضرب وبونية وموشطة وتمقيص وتغفيص. لقد اشتعلت نار الجهوية.. وأين؟ في باليرمو.. فنحن التوانسة نخرج بأمراضنا معنا ولا نتخلص منها حتى ونحن في البلدان الأجنبية ونفضح أنفسنا بأنفسنا أمام الأجانب ولا نخجل من أن نقول ونردد: التونسي للتونسي رحمة.. حكى لي إن التوانسة الذين يدخلون السجن في ايطاليا ويقضون سنوات فيه ثم يطردونهم إنما يدخلونه بسبب وشايات من توانسة عملا بالحكمة الكاذبة: التونسي للتونسي رحمة. وقد سمعت حكايات عن الحروب التونسية في باليرمو وفي كل المدن الايطالية ما لا يصدق.. ولكنها الحقيقة.. لأنها كلّها تدور وفق قاعدة التونسي للتونسي رحمة. وهنا تذكرت مرة أخرى نصيحة عمّ محمد حجام الحومة عندما نصحني بأن ابتعد عن التوانسة والعرب جميعا ولا أقترب منهم ولا أدخل معهم في علاقات سواء كانت عابرة أو دائمة. قال لي بالحرف: شوف ولدي صاحب الأجنبي مهما كانت جنسيته إن شاء الله حتى يكون يهودي فهو لن يخونك.. أما العربي فإنه يأكل معك الماء والملح ثم يدور عليك ويدوان عليك وياكلك ماكلة وأحيانا دون حتى سبب. كم أصبحت أكره التونسي للتونسي رحمة لأنها أكبر كذبة عرفتها تونس منذ أن فتحها عقبة بن نافع. إنهم يريدون إغراقنا في الروحية!! أمضيت كامل يوم أمس وأنا في حالة تعجب واستغراب. لقد أصابتني البهتة الى حدّ البكمة. هل تعرفون لماذا؟ لأن حدث الروحية الإرهابي المروّع مرّ وكأنه حادث عابر لا قيمة ولا أهمية له.. مرّ وكأن سيارة مرّت مسرعة فدهست قطة صغيرة مسكينة. مرّ وكأن ما حدث لا يستحق الاهتمام والتفكير وحتى طرح علامات التعجب والاستغراب والتساؤل والحيرة والقلق وربما الخوف. إنكم ولا شك تعرفون عبارة «بهيم وڤدم قرعة».. إذن فإن الموضوع كان على هذه الصورة. ولولا بعض البيانات والادانات وبعض المتابعة الإعلامية لاتخذت المسألة طابع التجاهل والاهمال وعدم الإكتراث واللامبالاة فما معنى هذا؟ هل معناه أن ما حدث في الروحية حادث صغير واستثنائي؟ هل معناه أننا ينبغي أن لا نعطي للموضوع أكثر من حجمه؟ وهل حجمه حجم عادي من صنف ما تعودنا عليه في بلادنا من جرائم وحوادث عنف واعتداءات؟ إنني لم أجد المعنى المحدد!! ولم أستطع أن أحدد تفسير أسباب اللامبالاة وعدم الاهتمام ولكن هل تعرفون ما هو الشيء الذي زاد في حيرتي؟ إنه عدم التصديق.. وعدم الثقة في «الحكاية» كلها. لقد سمعت من يقول إنها حكاية فارغة.. وإنها سينما.. وهم كالعادة «يفلّموا علينا» ويريدون تلهيتنا.. ويحبون أن ننسى مطالبنا الحقيقية فطلعوا علينا بهذه الخرافة لنتلهى بها وننسى كل شيء ننسى الحكومة المؤقتة وننسى الانتخابات وننسى الأسعار وننسى الغلاء وننسى كل شيء ونغرق في الروحية هذا ما سمعته من البعض وليس من كل الناس.. وهو عدم عودة عنصر الثقة التي ظلت مفقودة طوال السنوات بين السلطة والناس وللأسف الشديد مازال الناس لا يثقون في معظم ما تقوله لهم الحكومة. إن الإرهاب في تونس أصبح حقيقة قائمة وما حادثة الروحية إلا حجة تثبت هذه الحقيقة. ولكن يبدو أننا مازلنا لم نقدر الموضوع التقدير الحقيقي ولم نقرر بعد التعامل معه على أساس أنه خطر حقيقي يداهمنا.