كنت أمشي وأنا أستعرض عضلاتي وكأنني محمد علي كلاي في زمانه وفجأة توقفت.. لقد لسعني سؤال ما وكأنه عقرب.. شعرت بقرصة مسمومة وكأنها خنجر.. وهذا السؤال: ماذا تريد مني هذه المرأة؟.. إنني في إيطاليا ولا شيء هنا لوجه الله.. ثم أن التفكير المافيوزي هو السائد على التصرفات والسلوكيات.. وتوقفت هي الأخرى لتسألني باستغراب: ما لك توقفت.. وفيم تفكر.. يا روبرتو حبيبي؟!! وعندما سمعت كلمة حبيبي انتفضت.. وكأن صعقة كهربائية مسّتني أقوى وأعتى من تلك الصعقة التي «هزتني ونفضتني» ذات مرة وخربت يدي اليسرى.. وأوشكت أن تضرب قلبي بالسكتة النهائية.. وعندما ذهبت في اليوم الموالي الى الطبيب ورويت له ما جرى قال لي: هذا أمر عجيب.. إنني لا أصدّق بأن الكهرباء خربت لك يدك ولم تقتلك.. وظلّ الطبيب في حالة ذهول وبهتة.. فتركته على تلك الحال وغادرت عيادته.. سألتني: «حبيبي».. ماذا تريد؟ وعندما أعادت كلمة «حبيبي» كدت أسقط على الأرض من هول الدلال الذي تنطق به كلمة «حبيبي».. سألتها: هل أستطيع أن أعرف ماذا تريدين مني؟.. ضحكت ضحكة تساوي مليون ليرة.. وربما أكثر.. وسوّت صدرها وشعرها ثم قالت: أنت بطل ولكنك لا تقدر قيمتك.. إنني أجد فيك ما كنت أبحث عنه.. إنك روبرتو مارتيني الذي كنت أحلم به.. ولذلك أنا أريدك.. هل فهمت يا صغيري؟.. ولكنني لم أفهم ما قالت.. وكلامها لم يبدد شكّي.. ومع ذلك قلت لها: ليكن.. فأنا في النهاية رجل تخاف مني إيطاليا ويجب أن تخافي مني أنت كذلك.. فابتسمت ابتسامة عذبة وواصلنا السير.. وقبل أن نصل الى المطعم الذي استدعتني إليه تذكرت أنني الى الآن لا أعرف اسمها فسألتها: هل تسمحين لي بأن أعرف اسمك..؟ قالت: الاسم والعمر والعنوان إذا شئت.. قلت: لا.. الاسم فقط.. أما العمر فكل ما فيك يعلنه.. قالت اسمي: فيفيانو.. وعندما ذهبت الى مصر صاروا ينادوني بفيفي.. وعندما عدت الى باليرمو صار اسمي الشائع فيفي.. وأنت كذلك نادني بفيفي.. ولكن اسم فيفيانو اسم ذكوري ورجالي.. قلت لها.. فقالت: أوف.. غير مهمّ.. غير مهمّ.. هذه تفاصيل سخيفة.. غير أن كلامها أثار فيّ بعض الشكوك وعندما غيرت الموضوع بسرعة زادت هذه الشكوك.. إذن.. إلى أين يا فيفي الآن؟.. سألتها قالت: انظر أمامك.. هل رأيت تلك الأضواء التي تخطف الأبصار.. إننا سنتجه إليها وسأعلمك كيف تستمتع بحياتك وتنسى بؤسك وتخرج من كل ما يحيط بك من أفكار سوداء وعذاب وضغط.. وأضافت: الليلة ستكون أنت الملك.. نعم الملك روبرتو مارتيني.. وضمتني إليها وضغطت على شفتي السفلى ثم مسكت بيدي وجرت بي نحو الأضواء حيث استقبلتنا موسيقى صاخبة.. ورحب بنا الحراس الذين كانوا يقفون على باب المطعم الذي هو في الحقيقة يشبه النادي الليلي.. وماهي إلا بضع خطوات حتى غمرتنا التحيات والقبلات ورائحة العطر ورذاذ الشمبانيا.. ما هذا الذي أرى؟ إن ما أراه لم أره من قبل.. ولم أكن أعرف أن في الدنيا ناسا يعيشون بهذه الطريقة الباذخة.. والناعمة.. والحلوة.. مسكتني من يدي وأخذتني الى حيث طاولة حولها عشرات من الحسناوات شبه العاريات ومجموعة من الأفراد لم أفهم جنسهم.. ولم أستطع أن أحدد هل هم ذكور أم إناث.. وعندما اقتربنا منهم قاموا جميعا وهم يصرخون بإعجاب: غير معقول.. روبرتو مارتيني.. روبرتو مارتيني.. إنه هو بشحمه ولحمه.. وأخذ الجميع يريدون الانفراد بي.. وعندما صاروا يتخاصمون في ما بينهم اقترح أحدهم أن يقوموا بعملية رهان والفائز هو الذي يستولي عليّ.. ولكن فيفي أصرّت على عدم التفريط فيّ.. وقالت لهم بلهجة آمرة وناهية: الليلة هو لي لوحدي.. ولن أتنازل عنه.. وسأترككم لأنزوي به.. ولا أريد أن يقترب أي واحد منكم من طاولتنا.. وجذبتني بقوة واتجهت بي الى طاولة في مكان قصيّ وهي تغني أغنيتها المفضلة التي تتغنى بروبرتو مارتيني.. جلست.. وفتحت حقيبتها وأخرجت منها ما يشبه حكة النفة وفتحتها ثم أخرجت منها عود صغير ورقيق وفوقه مسحوق أبيض وضعته فوق ظهر يدها وأخذت تستنشقه بمتعة عالية.. وبهدوء كبير.. كنت أنظر إلى المشهد وأنا غير مستوعب ولكنني ظننت أنها تتناول دواء ضد مرض معيّن.. ولمّا رأيتها على هذه الصورة لعنت الأمراض وتعقدت.. واكتئبت.. لقد تذكرت أمي التي ولدت مريضة وماتت مريضة وظلت بين الولادة والموت مريضة.. وكنت أنا دليلها ومرافقها وممرضها في المستشفيات..