أخذني صديقي سائق التاكسي معه ليبحث لي عن عمل جديد يغنيني عن عملي السابق في مطعم ألبرتو كارتوزو المافيوزي.. كانت التاكسي تسير بنا في اتجاه مناطق زراعية أراها لأول مرة.. لم أكن أعرف أن باليرمو فيها ضواحي ريفية وزراعية في منتهى الروعة والجمال والهدوء.. هواء نقي.. ومساحات خضراء.. ومساكن قليلة جدا.. وغياب شبه كامل للاسمنت المسلّح.. ولولا أني لا أريد أن أزعج صديقي سائق التاكسي لطلبت منه أن أنزل ويتركني أرقص وأغني بأعلى صوتي فوق ما كنت أراه من مساحات خضراء.. كنت أتابع المشاهد الخضراء بشيء من اللهفة.. والإحساس بالسعادة.. فلاحظ صديقي سائق التاكسي عليّ هذا الاهتمام المفرط فسألني: هل اشتغلت بالفلاحة من قبل؟ فابتسمت وقلت له: أمنية حياتي كانت أن أكون فلاحا.. إن لي علاقة غريبة وعجيبة بالأشجار لا أستطيع أن أجد لها تفسيرا.. فأنا أعشق الشجرة مثلما أعشق امرأة وتتكوّن بيننا علاقة حميمية وأصرّ على أن أراها وألمسها كل يوم.. قلت له: تصوّر أن هناك أشجارا ليست لي وتقع على حافة أحد الشوارع أو في حديقة عامة فإنني أقع في غرامها فأذهب إليها خصيصا لأزورها وأطمئن عليها وكأنني سأذهب الى زيارة صديق أو حبيب.. أما عن الورد والنوّار والأزهار فلا تسل.. إنني لا أعشقها فقط.. بل أعبدها عبادة.. وأموت في نوار «الجيرانيوم» خصوصا ذي اللون الأحمر وأعتني به عناية خاصة.. وأتمنى لو أنني أكون طوال النهار والليل محاطا ب «الجيرانيوم» بمختلف ألوانه.. إنني مجنون «جيرانيومي».. ولم أتفطن الى أننا وصلنا الى العنوان المقصود فلقد شغلتني الأشجار والاخضرار وأخذنا الحديث.. توقفت بنا التاكسي أمام بوابة مزرعة تمسح مئات الهكتارات مزروعة عنبا.. وزيتونا.. وبرتقالا.. ثم كانت هناك مساحات خرافية مخصصة للورد والنوّار وعندما دخلنا من الباب الرئيسي ورأيت ما بداخل المزرعة لم أصدق أنني في مزرعة.. ظننت أني في فردوس الأحلام.. أو في حديقة الدهشة.. ما كل هذه الروعة والجمال؟.. تساءلت وأنا أملأ بصري بما لم أره في حياتي من هندسة حدائقية وزراعية لم أعرفها من قبل.. تمهلت.. وطلبت من صديقي السائق أن يتركني أمشي على مهل.. ويمكنني من التأمل والتفكير وإذا به يقول لي: لقد أتيت بك الى هنا لتشتغل ولذلك ستشبع برؤية ما تريد.. وستبقى هنا الى أن تملّ مما تراه الآن لأول مرة.. وما إن أنهى كلامه حتى صادفتنا امرأة في مقتبل العمر مازالت تحتفظ ببقايا من جمال قديم.. سمينة بعض الشيء.. لكن جسدها لم يتهرّم بعد.. ووجهها مازالت به بعض النضارة.. ما إن رأتني هذه المرأة حتى صاحت: روبرتو مارتيني بعينه.. إنه هو.. أليس كذلك؟ أجابها صديقي سائق التاكسي: إنه هو ولكنه ليس هو؟ قالت له: أنت كعادتك لا تريد أن تكون جديا.. ما معنى هذا الكلام الذي أسمعه منك؟ قال لها: إنه يشبهه مائة بالمائة ويكاد يكون نسخة جيّدة منه ولكنه تونسي وليست له علاقة بروبرتو مارتيني.. لقد جئت به إليك لأنني سمعت أنك تبحثين عن مشرف على عمالك.. فرحت المرأة.. واكتسى وجهها لون برتقالة ناضجة ونظرت إليّ نظرة إعجاب وقالت لي: أنت من سيحلّ مشكلتي مع عمالي الكسالى.. إنهم يشتغلون ساعة ويتوقفون عن العمل ثلاث ساعات.. أنت سوف يخافون منك.. بل سوف يرتعبون منك.. لأنهم سوف يظنونك روبرتو مارتيني فيتحاشونك ويتفرغون لعملهم وينتجون أكثر من العادة وسأعطيك أجرة طيبة ترضيك.. شكرها صديقي سائق التاكسي لأنها قبلت أن أشتغل معها وتركني بعد أن ودعني وأوصاني أن لا أخيب ظنه.. تركني مع المرأة التي نظرت إليّ هذه المرة بأكثر إعجاب وبنظرة فيها معان استبعدتها على الفور ولعنت الشيطان.. توغلنا أنا والمرأة الفلاحة في المزرعة ولما وصلنا الى حيث كان العمال يشتغلون نادت على واحد اسمه مارسيلو وقالت له: من هذه الساعة سيتولى هذا الذي أمامك روبرتو مارتيني الإشراف على العمال.. سيعرف كيف يجعلهم يعملون.. نظر إليّ مارسيلو نظرة فيها عدائية واضحة وأخذ يصفّر تصفيرة لم أفهم معناها ثم عاد ينظر إليّ من فوق الى تحت بشيء من الاحتقار.. واتضح لي في ما بعد وبسرعة أن مارسيلو اعتبرني غريما له جئت لأنافسه على عرش الملك.. نادى على العمال وجمعهم حولي وكان أغلبهم من التونسيين والمغاربة يشتغلون في المزرعة كعمال فلاحيين يجمعون الانتاج ويداوون وينظفون.. إنها أشغال مختلفة مقابل أجور زهيدة ولكن سكناهم وأكلهم ومصروفهم اليومي لا يفكرون فيه.. لأنها أمور مضمونة مائة بالمائة.. عندما رأوني أمامهم اصفرت وجوههم فلقد ظنوا أنني روبرتو مارتيني بالفعل فخافوا.. وظنوا أنني سأعاملهم بقسوة وعنف ولن أرحم تقاعسهم أو تكاسلهم.. ومع ذلك رحبوا بي ولكنهم عندما سمعوني أتكلم معهم باللهجة التونسية اطمأنوا قليلا ورحبوا بي أكثر.. أخذني مارسيلو الى غرفتي التي تقع في قلب الحديقة وأعطاني مفتاحها ولكنه لم ينس أن ينظر إليّ نظرته العدائية وكأنه يتهددني.. أو يتوعدني.. دخلت الى غرفتي فأعجبتني.. فهي مؤثثة ونظيفة ولها نوافذ تطلّ على كل جوانب الحديقة والذي أعجبني أكثر أنها محاذية لشجرة زيتون عمرها عشرات السنوات.. تركت الغرفة بسرعة وخرجت الى الزيتونة أتأمل فيها وألمسها وأحتضنها وأناجيها وكأنها مخلوق ينطق.. ويحسّ.. ويشعر.. ويتألم.. ويفرح.. وفي لحظة ما تصوّرت أنها أخذت تبكي من فرط ما لمسته من عواطف وحنان ومحبة واهتمام.. مسحت دموعها.. ووضعت رأسي على جذعها القوي.. وتخيّلت وكأنني أنام فوق صدر أمي وهي تلعب بشعري وتغني لي أغنية من أغانيها الجريدية القديمة التي حفظتها عن والدها الذي كنت اسميه عزيزي عبد الحفيظ الذي كان يبيع الخبز قرب السوق المركزية بتوزر المحاذي لباب الهواء.. ذلك المكان الذي أعشقه.. وأدمنه.. وأذهب اليه في كل مرة لأجلس فيه على قارعة الطريق.. وعندما أجلس أتخلص من كل الحزن القابع بداخلي.. نظرت إليّ شجرة الزيتون وكأنها تقول لي شكرا.. شكرا على هذه اللحظات الجميلة التي منحنتني إياها.. فقلت لها: أنا الذي عليّ أن أشكرك.. فلقد أعدت لي أمي التي ما أحبّني أحد في هذا الوجود مثلما أحبّتني.. شكرا لك أيتها الزيتونة.. فلقد أصبحنا من الآن أصدقاء.. ولكن! أصبحت عبدا هناك مثَلْ شعبي متشائم بعض الشيء «وغير ضامر» على عكس معظم أمثالنا الشعبية الأصيلة والتي تلمع دائما على مرّ الأجيال كالذهب الذي لا يصيبه الصديد والتي لا تخلو من بلاغة و«ضمار» وقوة تصوير.. هذا المثل يقول «العزوزة هازها الواد وهي تقول العام صابة».. ورغم أنني لا أحبه فإنه للأسف الشديد استطاع طيلة الأيام والليالي الأخيرة فرض نفسه عليّ.. وصار يلازمني ولا يفارقني ويعيش معي حيث ما اتجهت وتحركت وذهبت وجلست.. أجلس في المقهى فيخرج لي فجأة ويختار كرسيا قريبا مني ويطلب قهوة على حسابي ويظلّ يحدّق في ولا يتركني.. أنام في الليل وما إن استغرق في النوم حتى يوقظني ويذكرني بوجوده ويقول لي كيف تستطيع أن تنام وتتركني أسهر وحدي فيهجرني النوم.. أذهب الى الجريدة لأشتغل وأمارس مهنة الحراسة لأنني ما أنا في الحقيقة إلا «عسّاس» ولست صحفيا ليس من حقه أن يغفل.. أو يتعب.. أو يخطئ.. أو ينسى.. أو يسهو.. فأجده قد سبقني الى الجريدة ويجلس في قاعة التحرير كأنه صحفي محترف يشتغل معنا.. أما مسألة «العسّاس» الذي هو أنا فسأفصل فيها القول ذات يوم.. وأكتب عنها بالتفصيل.. لأنني في الحقيقة اشتغلت طوال السنوات الماضية «عسّاسا» ولم أكن أشتغل في الصحافة فمنه العوض وعليه العوض.. وأعود الى المثل الذي قهرني وأسقطني بالضربة القاتلة.. فصرت عبدا له لأقول أنه ما إن يراني أكتب أو أقرأ حتى يخرج لي من بين السطور ويفسد عليّ متعة القراءة ومحنة الكتابة ويطلب مني أن أتوقف عن كل شيء وأتفرغ له.. أذهب الى مكان ما لأختلي بنفسي وأترك أهل البلاء في البلاء وأجلس في مكان هادئ وبعيد حتى ولو كان في الجبل فيطاردني ويلاحقني وأجده قد وصل قبلي.. فيجلس معي ويفسد عليّ جلستي.. ان هذا المثل الشعبي الذي كنت دائما أكرهه ازدادت كراهيتي له هذه الأيام لأنه بصراحة يتآمر عليّ تآمرا واضحا الى درجة أنني صرت أضع يدي في جيبي فأجده قد احتل كل جيوبي.. لقد أزعجني أكثر من اللازم وأفسد عليّ حياتي.. وشوّش أفكاري.. ودمّر أعصابي.. ولم أجد حيلة لأتخلص بها منه فأستريح وأتحرر من حزني.. لقد أصبحت أسيرا لهذا المثل الذي لا أحبه..