بعد صمت دام أكثر من اللزوم وتململ غير مفهوم وعدم تفاعل سريع ومباشر فهم منه رفض لما قدمه الاتحاد العام التونسي للشغل من حل لإخراج البلاد من أزمتها الخانقة التي وصلت إلى طريق مسدود خاصة فيما يخص الوضع الاقتصادي وكل ما له علاقة بالمشهد السياسي الذي غرق في الخصومات المدمرة والملهية عن كل فعل إيجابي لفائدة البلاد، وافق أخيرا رئيس الجمهورية قيس سعيد على مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل التي خيّر أن يكون رئيس الجمهورية راعيا لها لإجراء حوار وطني ضروري لحلحلة الوضع العام. يرجع المتابعون هذا التأخر من طرف الرئاسة في الإعلان عن موقفها من هذه المبادرة التي يقترحها الاتحاد إلى التباين الموجود في المواقف السياسية والرؤى المتناقضة حول مضمون المبادرة ومراميها والخلاف حول الأطراف المعنية بالمشاركة فيها حيث لوحظ منذ الوهلة الأولى غموض في مواقف بعض الأطراف السياسية التي بدت مترددة ومتخوفة من فشل هذا المسار الجديد الذي يقترحه الاتحاد خاصة وأن المناخ الذي قام عليه الحوار الوطني الذي حصل في سنة 2012 ليس نفسه المناخ الذي يحكم المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي اليوم من حيث التحديات والرهانات والتجاذبات السياسية، ولكن المهم اليوم هو في الخطوة الايجابية التي قامت بها مؤخرا الرئاسة في الاعلان عن موافقتها على إجراء هذا الحوار وإعطاء الإذن في الانطلاق في الإعداد له مع توصية مهمة أثارت نقاشا وتساؤلات كثيرة حيث أعلن قيس سعيد في اللقاء الذي دار بينه وبين نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد أنه موافق على إجراء حوار وطني برعايته يكون هدفه وغايته تصحيح مسار الثورة التي تم الانحراف بها حسب قوله عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية مع وجوب تشريك ممثلين عن الشباب من كل الجهات وفق معايير يتم تحديدها لاحقا. فهل غيّر قيس سعيد بهذه الشروط من مضمون مبادرة الاتحاد؟ وهل حاد بموافقته على الحوار الوطني عن المسار الذي رسمته المنظمة الشغيلة التي أرادت حوارا وطنيا برؤية واضحة ومحددة وهي إيجاد مخرج لمأزق البلاد وحلول عملية وعاجلة سياسية واقتصادية واجتماعية للوضع الراهن الذي يخنق الوضع العام؟ بقطع النظر عن صحة الخيار الذي قام به الاتحاد حينما أسند رعاية هذا الحوار إلى رئاسة الجمهورية حيث أن هناك تحفظ من جهات سياسية عدة حول شخص الرئيس الذي ليس في نظرها الجهة الأجدر لرعاية هذا الحوار من حيث قدرته على التجميع ومن حيث تموقعه السياسي ووقوفه على نفس المسافة من الجميع، فمن هذه الناحية هناك عدة جهات أخرى كان من الأجدى أن تكون هي الراعية لهذا الحوار لمواقفها الحيادية و لعدم اصطفافها السياسي ولكونها لم تكن أحد أسباب الأزمة وجوانب المشكل الذي تعيشه البلاد فقد كان من المفروض على الاتحاد أن يختار جهة أخرى ترعى حواره تكون فوق كل الشبهات وغير مورطة في تعفين الوضع وإدامته ولكن بما أن الاتحاد قد حسم أمر الجهة التي سوف تحتضن هذا الحوار الوطني فإن التخوف اليوم من أن تضيع مبادرة الاتحاد وتذوب وسط فكرة تصحيح مسار الثورة التي اشترطها الرئيس وتحتاج بدل حوار ونقاش إلى فعل سياسي وتحرك ميداني وإرادة صادقة للتصدي للإستراتيجية التي تتبعها قوى الردة وجماعة الثورة المضادة وبقايا المنظومة القديمة التي تواصل عملها في شحن كراهية الناس في الثورة وفي إظهارها على أنها كارثة ودمار حل بالبلاد… تصحيح مسار الثورة يكون باستعادة أفكار الثورة التي قامت على فكرة القطع مع المنظومة القديمة ومحاسبة بقايا النظام القديم سياسيا والتي اتضح جليا أنها استطاعت أن تفشل الثورة واستطاعت أن تواصل في ممارسة الحكم وممارسة السلطة رغم سقوط رأس النظام فالذي حكم خلال السنوات العشر بعد الثورة هي المنظومة القديمة بما هي إدارة عميقة ورموز تابعة للمنظومة وسياسات نافذة لا زالت متحكمة وأشخاص نافذين في كل مفاصل الدولة وشبكة من النافذين والعلاقات المالية والاقتصادية والإدارية والإعلامية لا يزال ولاؤهم لحزب التجمع المنحل ولا يزال حنينهم للقديم .. تصحيح مسار الثورة يكون بالعودة إلى نقاوة الثورة وصفائها في أيامها الأولى بعد رحيل بن علي حينما قرر من قام بها أنه لا يمكن انجاح المسار بالرموز القديمة ولا يمكن تحقيق أهداف الثورة من دون محاسبة سياسية حقيقية لكامل المنظومة القديمة. فهل يستطيع قيس سعيد أن يستعيد وهج الثورة ؟ وهل يقدر على إرجاع الثورة إلى مسارها الأول حينما رفعت شعارها الكبير " يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب"؟ إن المقلق في فكرة تشريك ممثلين عن الشباب في الجهات في هذا الحوار الوطني ليس في الفكرة في حد ذاتها التي لا يختلف فيها أحد ولا اعتراض عليها من حيث المبدأ فالثورة قامت بالشباب ومن أجلهم ولكن المقلق في الخلاف الذي سوف ينشب ويحدث حول تعريف الشباب المعني بهذا الحوار وحول الطريقة التي سوف يتم من خلالها اختيار ممثلين عن شباب الجهات ونحسب أن شرط تشريك الشباب في هذا الحوار سوف يعقد الأمر ويصعب المهمة في علاقة بتحديد عدد الشباب المطلوب تشريكه والكيفية التي سيتم من خلال تحديد الشباب المشارك. ان المقلق في هذا الحوار في الشروط المسبقة التي يشترطها كل من الاتحاد والرئيس بخصوص الجهات المعنية بالحوار حيث هناك فيتو من طرف الاتحاد بخصوص مشاركة ائتلاف الكرامة وفيتو آخر من طرف الرئاسة في عدم تشريك حزب قلب تونس في الحوار المرتقب وهي موانع وشروط يعتبرها بعض المراقبين غير وجيهة من حيث فكرة الحوار وجوهره الذي لا يمكن أن يكون إلا مع المختلفين طالما يحظوا بشرعية انتخابية ومشروعية شعبية على أن يبقى المبدأ في هذا الحوار هو عدم تشريك كل من أقصى نفسه ورفض الحضور والمساهمة في هذا النقاش حول وضع البلاد وحول الحلول الممكنة للخروج من الأزمة تنتهي إلى برنامج عمل وإستراتيجية يلتزم بها الجميع .