مفارقة عجيبة تعيش على وقعها البلاد في تاريخها الراهن لم تعرف لها مثيلا في تاريخها المعاصر .. ووضعية محيرة تعرفها الدولة التونسية في راهنها قد تنتهي بضياع كل شيء، هذه المفارقة وهذه الوضعية تتمثل في وجود حالة من التدهور الاقتصادي بتراجع كل مؤشرات النمو وتراجع كل محركات الإنتاج وحصول حالة من الشلل في كل القطاعات الحساسة كالفسفاط والنفط وانعكاسات كل ذلك على الحالة المالية التي تعرف مخاطر كثيرة لعل أوضحها فقدان الدولة التونسية الثقة التي كانت تتمتع بها عند المؤسسات المالية العالمية المانحة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بسبب عدم تطبيق الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة كل تعهداتها وما وعدت به من إصلاحات التي التزمت بها في كل اتفاق تبرمه مع الجهات المانحة وفقدان الثقة نتيجته المباشرة تخلي هذه المؤسسات المالية عن إسناد الدولة التونسية وفك الارتباط معها والتخلي عن مرافقتها في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها وكل ذلك بسبب تخلف الوعود والالتزامات. وفي مقابل كل هذه المخاطر المالية والاقتصادية نجد طبقة سياسية غير مبالية بما يحصل وغير عابئة بما ينتظر البلاد من مصير كارثي جراء الأزمة المالية الخانقة ولا تحرك ساكنا لحلحلة الوضع وإيجاد مخرج لهذا المأزق .. ونجد رئيس حكومة متمسك بمنصبه وغير قابل بما يقوم به ساكن قرطاج و يطالب به في دلالة على أنه يتمتع بشرعية معتبرة منحها له البرلمان وهو بذلك يتحمل مسؤولية الحكم وإدارة الشأن العام بكل استقلالية عن أي جهة حتى وإن كانت هذه الجهة قيس سعيد رئيس الجمهورية .. ورئيس برلمان ومجلس نواب الشعب يعيشان كل يوم في ملحمة جديدة من ملاحم الحروب الرومانية بعد أن تحولت هذه المؤسسة في الدولة إلى مكان للصراعات وفضاء للخصومات الحزبية وتعطيل للعمل التشريعي .. ورئيس جمهورية لا نعلم ماذا يريد ولا كيف يفكر وهل هو مدرك ما ينتظر البلاد من تحديات وإكراهات بعد أن حوّل قصر قرطاج من مكان للحكم إلى فضاء للمناكفات السياسية والسجالات الحزبية وتلهى بخوض حرب وهمية مع الجميع بعد أن رفض كل مبادرة للحوار وبعد أن قطع كل اتصال مع العالم الخارجي فلا تواصل مع الأحزاب ولا تواصل مع الإعلام عدا خطاب مللنا سماعه وهو يكرر نفسه كلما نزل إلى الشارع في فسحة يختارها ليسمعنا الاسطوانة المعروفة عن المؤامرات والخونة المفسدين. اليوم يمكننا أن نقول بصوت عال أيها السادة الكرام لقد انتهت فسحتكم وانتهى عبثكم .. اليوم يحق لنا أن نردد بصوت عال بأن الوقت قد تأخر حتى يستفيق الجميع وخاصة ساكن قرطاج الذي عليه أن ينزل إلى كوكبنا ويعيش معنا، عليه أن لا يتحول إلى معطل للعملية السياسية وهو اليوم بعد كل المحاولات لثنيه عن شروطه وقراراته وطريقة تفكيره قد تحول إلى عبء ثقيل بعد أن اتضح أن الانسداد موجود في قصر قرطاج. نقول هذا الكلام ونوجه هذا اللوم والتحذير لأن الوضع قد وصل إلى مداه وحالة البلاد المتردية على جميع الأصعدة لم تعد تنتظر مزيدا من اللعب والعبث .. اليوم الدولة في خطر والبلاد على حافة الإفلاس إن لم تكن قد دخلت في حالة من الإفلاس غير المعلن الذي يخيف الناس ويربك الشعب على حياته ومستقبله. نقول هذا الكلام لأن كل الأرقام وكل المؤشرات الاقتصادية في هبوط سريع ومتواصل مما يجعل من خيارات الإنقاذ تقل ومن فرص العلاج تنحصر وتضيق بنا السبل بعد أن كانت في السابق الحلول كثيرة وممكنة أما اليوم وبعد كل الانهيارات التي حصلت فإن الحلول لإنقاذ البيت قليلة ومعروفة وكل الخوف أن تفرض علينا إذا ما واصل السياسيون تجاهل كل هذه المخاطر وواصلوا في مناكفاتهم وصراعاتهم . إن المشكلة أن نستفيق اليوم على حقيقة مرة وهي أن من منحناهم ثقتنا لتسيير البلاد والسير بها نحو الأفضل هم من تسبب في خرابها وإنهاكها ولكن الأمر الذي قد يغفل عنه هؤلاء أن التاريخ قد علمنا أنه حينما لا يترك السياسي مكانا للإصلاح ويصبح هو المعطل والعبء الثقيل فإن كل الحلول وقتها تكون متاحة وممكنة أمام الشعب وحينها لا تلوموا من يخرج شاهرا سيفه على من تلاعب وعبث بالبلاد.