كان أحمد عبود باشا صاحب ثروة طائلة في مصر بل كان أغنى رجل في مصر يذهب الى «الأهرام» ليطلب مقابلة محمد حسنين هيكل.. ويطلب ودّه ورضاه.. وكان عندما تبقيه سكرتيرة هيكل في البهو بعض الوقت في الانتظار حتى يأذن له هيكل بالدخول يرقص ويتمايل وهو يقول بصوت مرتفع: «أنا يا ناس هيكلي.. أنا والله هيكلي!!! هيكلي..» وكان جميع أصحاب المصالح من رجال المال والأعمال.. والسياسيين.. والفنانين.. يترددون على هيكل فهو مصدر الأخبار.. وهو.. وهذا الأهمّ.. المؤثر الأول في صناعة اتخاذ القرار.. لم يكن مجرد صحفي عادي.. أو مجرد قلم يكتب.. كان أكثر من ذلك بكثير.. ومن الطبيعي أن يكون لرجل له هذه المكانة.. هذا النفوذ.. وهذه السطوة والخطوة اصدقاء وأعداء.. في آخر زيارة للقاهرة التقيت على انفراد بصديقة صحفية كبيرة لها صولات وجولات في الصحافة العربية وهي سناء السعيد ابنة الكاتبة الصحفية.. الرائعة أمينة السعيد التي كانت أول من ابتدعت زاوية صحفية ناجحة جدا اصطلحنا على تسميتها في الصحافة باسم «قلوب في الجحيم» ولكن امينة السعيدة كانت تسميها ب «شموع في الظلام» وقد نجحت في هذا الباب نجاحا كبيرا ثم انها صاحبة عبارة جميلة.. ورشيقة.. وشخصية محببة.. وإمرأة مهنية من الدرجة الأولى.. وكانت الصحافة العربية في جلستي مع سناء السعيد وهمومها ومشاكلها.. ثالثتنا.. كان النيل أمامنا ينساب في هدوء وجمال وسحر ودلال.. وكان الشاي.. وكان السهر والسمر.. وتطرّق بنا الحديث الى هيكل.. وإذا بسناء تنتفض وكأن عقربا لدغتها فصارت امرأة اخرى.. ورغم انني أعرف سناء منذ السبعينات الا أنني لم أكن أعرف أنها تكره هيكل بشكل لا يصدّق.. وراحت سناء تتحدث عنه وكأنها تتحدث عن كائن بشع.. وقبيح.. وكريه.. قالت لي: هيكل إنسان «شايف نفسو» أكثر من اللزوم.. وقد تخاصمت معه من أجل الشغل كثيرا.. ولا يعطي للصحفي المبتدئ فرصة لكي يتعلّم.. وقد اقتربت منه في بداية حياتي المهنية لكنني سرعان ما ابتعدت ومضيت في طريقي رغم أنفه.. بعد أن وضعته في مكانه.. كانت سناء وهي السيدة اللطيفة والهادئة في العادة تتحدث وهي في حالة ثورة وتوتر وكانت أحكامها على هيكل سلبية وقاسية وحاولت أن تقنعني بأن الهالة التي يحيط بها نفسه انما هي هالة كاذبة ومصطنعة وتغطي حقيقة شخصيته.. ولكنني لم أقتنع لأن رأيي في هيكل يختلف عن رأيها جملة وتفصيلا.. ثم انني لا أنظر الى موضوع هيكل الا من زاوية مهنية بحتة وبكل نزاهة وموضوعية.. وعندما أنظر وأقيّم لا يمكنني أن اقول الا أن هيكل قامة وقيمة في الصحافة العربية بل لعلّه يمثّل في كل تاريخ هذه الصحافة ظاهرة نادرة واستثنائية وفريدة من نوعها ولا أظن أنها ستتكرر وإن كنت أتمنى أن تتكرر.. وأنا لا أقول ما كان يقوله أحمد عبّود باشا: «أنا هيكلي يا ناس..» ولكنني أقول فقط أن تجربة هذا الصحفي العظيم الذي انتقل من المحلية الى العالمية واستطاع أن ينشر مقالاته وتحاليله في صحف بريطانية وأمريكية وحتى يابانية واسعة الانتشار يستحق الاحترام والتقدير فليس من اليسير أن ينجح أي صحفي عربي ويستمر في أداء رسالته طوال نصف قرن.. إن مجرد استمرار الصحفي في الوطن العربي يكاد يقارب المعجزة.. ويكفي أن أقرأ مقالاته اليابانية التي نشرها في أكبر صحيفة يابانية حتى أسلّم بأن هيكل لم تلده الصدفة ولم تأت به رياح الحظّ..