يمكن إعتبار ظاهرة الفقر الزاحف في بلادنا ، بسرعة وشراسة كبيرتين، أخطر أزمة تعترض البلاد في هذه المرحلة الحاسمة والدقيقة والحرجة من مسيرتها، خاصة وأن تردي الأوضاع الإقليمية وتواصل ما يشبه الحرب الأهلية في ليبيا وما تداعى عنها من مشاكل إرتدادية على بلادنا زاد في تعميق أزمة الفقر المتفاقمة بشكل مزعج. لا بد من التذكير في هذا السياق بأن الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه من بناة الدولة الحديثة كانوا قد جعلوا من محاربة الفقر ، منذ الأيام الأولى التي تلت إستقلال البلاد، "الجهاد الأكبر"، فوضعوا للغرض، خططا آنية عاجلة وأخرى آجلة وأكثر تفاصيل ، وآليات تنفيذ ومتابعة ومراقبة وتقييم، حتى تحققت نجاحات باهرة نوهت بها المنظمات الأممية المختصة، ثم واصل الوزير الأول، المصلح الإجتماعي والإقتصادي الهادي نويرة، محاربة آفة الفقر ب0ستنباط وسائل وطرق وأساليب أخرى أثبتت فاعليتها وتبنت تطبيقها العديد من بلدان العالم الثالث في إفريقيا وآسيا بالخصوص، وأصبحت التجربة التونسية في هذا المجال مثالا يقتدى به ، لتتواصل عبر آليات جديدة في أواخر ثمانينات طيلة تسعينات القرن الماضي ولم تتعثر وتفقد زخمها تدريجا إلا قبل سنوات قليلة من سقوط النظام السابق. أردنا التذكير بهذه الحقائق للتأكيد على أهمية وفاعلية التجربة التونسية في مكافحة آفة الفقر،بمعنى أن حكومة يوسف الشاهد ليست هي الحكومة الأولى، في تاريخ بلادنا منذ الإستقلال، التي تجد نفسها في مواجهة هذه الآفة الخطيرة، فبعد حكومة الإستقلال، التي أطلقت على عمليتها عنوان " الجهاد الأكبر" ، كما ذكرنا آنفا ، وحكومة الهادي نويرة التي ورثت في الثاني من شهر نوفمبر 1970 وضعا كارثيا على جميع المستويات بعد الفشل الذريع لتجربة التعاضد، كان قدر حكومة زين العابدين بن علي أن تواجه نفس الآفة بعد وصول البلاد إلى حافة الإفلاس مع مطلع النصف الثاني من الثمانينات. كل هذا الإرث الهائل من التجارب في مواجهة الفقر موجود على ذمة حكومة "الوحدة الوطنية" ويمكن لها أن تستفيد منه، خاصة وأن الكثير من الكفاءات الوطنية ، التي ساهمت من موقع القرار والتخطيط والتنفيذ ، في إنجاح تلك التجارب مازالت موجودة وقادرة على الإضافة . إن كل ما يطلبه التونسيون الآن، وقبل الحرية المنفلتة وديمقراطية الواجهات، هو أن يجد يوسف الشاهد الجرأة الكافية للإستئناس بالتجارب المتراكمة على امتداد ستة عقود، والإستنارة بمعارف الكفاءات الوطنية التي ساهمت في ذلك، و0تخاذ القرارات " القيصرية المؤلمة" للحد من إتساع هذه الآفة ، لأن تحقيق الأمن والإستقرار في البلاد وتأمين نمو الحرية والديمقراطية، وصيانة حقوق الإنسان ، مرتبط ، إرتباطا عضويا، بالنجاح في محاربة الفقر ، ثم لا ننسى أن الفقر والإرهاب توأمان لا ينفصلان ، إذ كلما إتسعت مساحات الفقر والإحتياج والتهميش إلا وتعددت بؤر التطرف والتشدد والتمرد والإرهاب. لا يمكن مقاومة الإرهاب بنجاح دون إيجاد حلول ناجعة للحد من ظاهرة الفقر والقضاء عليها لأن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي ، وقد أثبت التجارب ذلك في كل الأمكنة التي أبتليت بالإرهاب.