حضرت يوم السبت المنصرم ندوة نظمتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات خصصت للحديث عن المرحوم الهادي نويرة وذلك بمناسبة مرور مائة سنة على ولادته، واستمعت باهتمام كبير إلى كل الكلام الذي قيل في هذه الندوة وكذلك كل النقاش الذي دار بحضور ثلة ممن عرفوا المرحوم وعاصروه أو اشتغلوا معه في نفس الفترة. وقد قيل الكثير من الكلام حول تاريخ الرجل وأعماله تستحق الكثير من التعليق أو إعادة النظر وربما التحقق من صحته، ومما جاء على لسان بعض الحضور اعتبار الهادي نويرة مناضلا لا يقل قيمة عن كل الزعماء الذين عرفتهم الحركة الوطنية وذاع صيتهم عند الناس من أمثال الزعيم عبد العزيز الثعالبي والمناضل المنجي سليم والشهيد فرحات حشاد وطبعا الرئيس الحبيب بورقيبة وغيرهم إلا أن التاريخ قد نسيه وغيب حضوره وفعله من العمل السياسي زمن الاستعمار بحيث لم يحض بالعناية والاهتمام اللازمتين كما حضي غيره من الزعاء ومر في تاريخ الحركة الوطنية مر الكرام حيث عادة ما يتم تغيب اسمه عند الحديث عن مقاومة المستعمر وكل النضال السياسي الذي عرفناه في تلك الحقبة من التاريخ بل قل أنه لا يذكر البتة بصفته زعيما سياسيا ثوريا ومناضلا من أجل تحرير البلاد، وهذا فعلا ما حاولت هذه الندوة إبرازه والتأكيد عليه في دعوة إلى إعادة الاعتبار للمرحوم الهادي نويرة واعتباره مناضلا سياسيا وقوميا لا يقل قيمة عن كل زعماء حركة التحرير الوطني. كما حاولت هذه الندوة وحاول كل من حضرها وأجهد نفسه للدفاع عن الهادي نويرة وسياسته بعد الاستقلال وتسليط الضوء بكثافة على انجازاته الاقتصادية خلال عشرية كاملة بداية من السبعينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي واعتبار فترة توليه الوزارة الأولى أزهى فترة عرفتها تونس ووصفه بالرجل العبقري الذي لم يجد الزمان بمثله وأنه فلتة من فلتات الدهر، فقد كان وراء كل الاستقرار الاجتماعي الذي عرفه المجتمع وكل الرخاء الاقتصادي الذي ساد في تلك الفترة بل قل كان مهندس تخليص البلاد من ورطة التعاضد والسياسة الاشتراكية التي أدخلت الدولة ومن ورائها الشعب بداية من سنة 1962 وحتى سنة 1969 في متاهات الظلم الاجتماعي وافتكاك أملاك الناس بالقوة وما نتج عنه من تفقير الفلاحين واضطهاد أصحاب الأموال والممتلكات الخاصة وتحويلها إلى ملك مشاع بين الجميع مما سبب معاناة كبيرة للناس وتضمرا غير مسبوق ووضعا لا يحتمل كان من الممكن أن يؤدي إلي حدوث انفجار اجتماعي لا تحمد عقباه أو احتجاجات شعبية خطيرة قد تقضي على ما أنجزه الاستقلال أو تذهب بما تحقق من مكاسب بعد تحرير البلاد من ظلم الاستعمار الفرنسي. إذا حاولت هذه الندوة إظهار الراحل الهادي نويرة بمظهر رجل الدولة والسياسي المقتدر وان لولاه لكانت البلاد قد سارت إلي ما لا يحمد عقباه أو أن تكون قد وقعت فيها كوارث اجتماعية وسياسية مجهولة العواقب وخطيرة النتائج وأنه بفضل تصوراته ورؤاه الاقتصادية وأفكاره الثاقبة قد تخلصت البلاد من فترة حالكة وحقبة مظلمة فرض فيها الفكر الاشتراكي المجحف وهيمنت في ضلها سياسة التعاضد الظالمة التي عانى منها الشعب كثيرا، مما جعل فترة تواجده في الحكومة فترة يضرب بها المثل في حسن إدارة الدولة وحسن إدارة الموارد المالية للبلاد حيث عرف الشعب خلال عشرية كاملة أبهى وضعه الاجتماعي وتحسنت معيشته كثيرا وتطور الوضع الاقتصادي للمواطن وانفتحت الدولة على المبادرة الخاصة وظهرت المشاريع الصناعية والسياحية وعرفت الدولة نقلة نوعية في مجال التهيئة العمرانية وبدأت معركة القضاء على ابرز مظاهر الفقر والتخلف وتمت مقاومة ظاهرة الأحياء القصديرية وكان ابرز مثال على هذا الرخاء الاقتصادي دخول الاستثمار الأجنبي وما جلب معه من توفير فرص العمل للكثير من التونسيين وتشغيل الآلاف من العاطلين عن العمل في القطاع الصناعي والسياحي وما المؤسسات الاقتصادية التي تأسست في ضل قانون سنة 1972 إلا خير دليل على نجاح سياسته الاقتصادية والاجتماعية. كان هذا تقريبا ابرز ما جاء في هذه الندوة حول مائوية الراحل الهادي نويرة ، لكن الذي لم يقال ولم يتطرق له الحضور وكل من شارك من رفاق دربه وأصدقائه في هذه الندوة هو أن الهادي نويرة جاء للحكومة بعد الاستقلال اثر فترة عصيبة عرفت تجربة إشتراكية قاصية وذلك لإنقاذ البلاد من هذه الوضعية الصعبة من خلال تدخل المؤسسات المالية العالمية ممثلة في البنك العالمي وصندوق النقد الدولي التي أرست برنامج إنقاذ أطلق عليه اسم " برنامج الإصلاح الهيكلي " اختير لتنفيذه الهادي نويرة الذي كان رجل المرحلة المطلوبة لتنفيذ هذا البرنامج لإخراج تونس من أزمة التعاضد، حيث طبق تصورات البرنامج الدولي وأحسن تنفيذه وكان وفيا لتعليمات المؤسسات المالية وجاهد من اجل انجاح برنامج الإصلاح الهيكلي مما يعني أن الهادي نويرة لم يأت بأفكار من عنده لإنقاذ البلاد من أزمة التعاضد ولا كان رجل اقتصاد عبقري ولا صاحب نظرية إقتصادية ولا غير ذلك من كل الكلام الذي يقال عنه، ذلك أن المسألة وكل ما في الأمر أن الهادي نويرة طبق بإتقان برنامج المؤسسات المانحة ولم ينحرف في التطبيق ولا زاغ أثناء الطريق ولا تخلى عن التعليمات بعد سنوات وإنما واصل إلي النهاية في تطبيقه إلى حد حصول الأزمة المعروفة مع اتحاد العام التونسي للشغل في أواخر السبعينات. ماذا يعني كل هذا الكلام ؟ إنه يعني بكل بساطة أن الهادي نويرة لم يكن رجل دولة عبقري ولا رجل سياسة محنك كما يحاول البعض إظهاره إلينا وإنما كان رجل إنقاذ بارع أدار سياسة مالية باقتدار فائق وراهن عليه البنك العالمي والصندوق الدولي لتنفيذ برنامجه للإصلاح الهيكلي فأدى المهمة على أحسن وجه وخلص البلاد من كابوس الاشتراكية ووحل التعاضد من خلال أفكار المؤسسات المالية العالمية. وهذا الذي نقوله لا يعني أننا نقلل من قيمة المرحوم ولا ننقص من قدره وإنما هو جانب من الحقيقة التاريخية التي لم يذكرها كل من تحدث عن الهادي نويرة في مائويته وهو جانب مهم ومنسي وكثيرا ما نتغافل عنه حينما نتعرض إلي فترة الرخاء الاقتصادي التي عرفتها البلاد خلال السبعينات من القرن الماضي، والفترة الزاهية التي عاشها الشعب بعد التجربة الاشتراكية الفاشلة. صحيح أن الهادي نويرة كان مثقفا وكان ملما بالشأن الداخلي وكان منضبطا في عمله وكان وطنيا لا يحتاج إلى من يشهد له بذلك ولكنه مع ذلك لم يكن رجل اقتصادي عبقري ولا صاحب أفكار وإنما كل ما فعله أنه طبق أفكار البنك العالمي وتصورات صندوق النقد الدولي بكل حرفية ونفذ تعليماتهما بكل أمانة فكانت النتيجة ما عرفه الجميع من تحس حال التونسيين في تلك الفترة من التاريخ . هذه وجهة نظر يتبناها الكثير ممن عاصروا الرجل حاولت نقلها حتى نبرز الوجه الثاني من العملة ونعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله ونتحدث عن المرحوم من جوانب يتعمد البعض عدم ذكرها، فإلى أي مدى يصدق هذا التحليل مع حقائق التاريخ وثوابت الأعمال؟