ورحل سي توفيق. لقد كان الأستاذ توفيق بكّار أستاذا مختلفا عن كلّ الأساتذة في الجامعة التّونسيّة.ولم يكن ذلك بفضل علمه ومعرفته العميقة بالمناهج الأدبيّة الحديثة وبذوقه الرّفيع في قراءة الأدب قديمه وحديثه بل وكذلك بالعلاقات المتميّزة الّتي عقدها مع طلبته. لقد استطاع أن يحوّل طلبته طيلة الأجيال المتعاقبة إلى مريدين يتابعون دروسه ويروّجون آراءه في الأدب والفنّ.في نهاية الستّينات وبداية السبعينات كان الأستاذ في الجامعة عموما أستاذا متعاليا في علاقته مع طلبته فجاء توفيق بكّار وحطّم ذاك الحاجز الوهمي الّذي يفصل بين الأستاذ وطالبه، إذ كان يقف بعد انتهاء الدّرس ليتحلّق به الطلّاب ويواصل معهم الحديث ويجيب عن أسئلتهم بكلّ تواضع. لكنّ توفيق بكّار في بداية السبعينات أحدث ثورة ثقافيّة في كلّية الآداب، كانت مناهج التدريس في تلك المرحلة عموما مناهج تقليديّة وإذا بتوفيق بكّار يوظّف المناهج النّقديّة الحديثة المنتشرة في تلك المرحلة في فرنسا وينظّر لها ويسعى إلى توظيفها في تحليل نصوص الأدب القديم والحديث معا. لقد بدأ حياته النقديّة بنيويّا متأثّرا خاصة بالبنيويّة التكوينيّة من خلال تحليله لروايات الشّرقاوي وخاصّة رواية الأرض، ولكنّه في نهاية السّبعينات تجاوز البنيويّة التّكوينيّة لينظّر للإنشائيّة من خلال أعمال طودوروف وجيرار جينات وقد كانت النصوص الّتي حلّلها موظّفا خاصّة أنموذج طودوروف في تحليل القصّ شهيرة وفي مرحلة أخيرة وعندما ترك الجامعة وانخرط في العمل الثّقافي زهد في هذه المناهج كلّها وأنشأ منهجه النّقديّ الخاصّ وهو المنهج الإبداعيّ. لقد تجلّى هذا المنهج في تلك المقدّمات الّتي كتبها عندما أصدر سلسلته الخاصة «عيون المعاصرة» (دار النّشر للجنوب) وأعاد نشر أبرز النّصوص الأدبيّة الّتي ظهرت في النصف الثّاني من القرن الماضي. لم تكن تلك المقدّمات مقدّمات عاديّة، كانت نصوصا إبداعيّة تحرّر فيها من تلك المناهج الّتي تضيّق على النصّ الإبداعيّ وترك المجال لذوقه وفهمه وثقافته لتقرأ هذه النّصوص وهكذا كانت هذه المقدّمات إبداعا يحاذي إبداع النصّ الّذي يحلّله. ويظلّ أشهرَ ما ألّف في هذا السّياق مقدّمتا «موسم الهجرة إلى الشّمال» للطّيب صالح و«حدّث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي. فبأسلوبه الإبداعيّ عرض قراءته للنصّين الّتي ستوجّه كلّ من أراد أن يتحدّث عن هذين النصّين. لكنّ فضل توفيق بكّار في أنّه كان جامعا للمثقّفين المتخرّجين من كلّيات الآداب، فمن خلال سلسلة عيون المعاصرة أعطى الفرصة للكتّاب الشبّان لينشروا نصوصهم في هذه السلسلة ، فقد كان يقرأ هذه النّصوص وكان يتدخّل بالنّصيحة والإرشاد وعندما يستوي النصّ يجازف بنشره، ولذلك تجد الآن مجموعة هامة من النّصوص الجيّدة الّتي تؤثّث المكتبة السّرديّة التّونسيّة. لقد كان فعلا مثقّفا يجمع ولا يفرّق، فهو لم ينخرط في تلك الصّراعات الّتي كانت تشقّ الجامعة أو السّاحة الثّقافيّة وقد كان يرفض الحديث عن زملائه في غيابهم وعندما يتحدّث أحد عنهم بما لا يرضاه لا يستمع إليه ويغيّر الموضوع، ولذلك كثر مريدوه والمنتسبون إليه. لقد عرفت توفيق بكّار معرفة شخصيّة عندما قرّرت العودة إلى الدّراسة لإعداد شهادة الدّراسات المعمّقة وقبل الإشراف على بحثي «شخص المثقّف في الرّواية العربيّة المعاصرة»، كان ذلك في السّنة الجامعيّة 1979/1978، وكنت أعدّ هذه الشّهادة على بعد 400 كلم من تونس، ولكنّي ذهلت بالعطف الذي حباني به، فقد كان يستقبلني في بيته في لافيات لينظر في أوراقي ويعرض عليّ نصائحه وإرشاداته وهو ما جعلني أنهي بحثي في وقت قيvاسيّ. ثمّ تطوّرت علاقتي به لمّا انخرطت في العمل الثّقافي عن طريق تنظيم الندوات الأدبيّة والفكريّة في مدينة قابس، فقد كان معلّمي ومرشدي إذ كنت ألتجئ إليه للنّظر في إعداد هذه الندوات الأدبيّة. وأذكر أنّ أوّل ندوة نُظّمت في البلد وتتعلّق بالرّواية هي ندوة «الرّواية والإيديولوجيا»، لم يعترض على الموضوع عندما اقترحته عليه ولكنّه عرض عليّ أسماء المشاركين في الندوة، فعن طريقه استقدمنا محمود أمين العالم ويمنى العيد وعبد الرحمان منيف ونبيل سليمان وثلّة من المنشغلين بالرّواية في تونس، كانت تلك هي الندوة الأولى عام 1985 ونظّمت في المكتبة الجهويّة بقابس، وبعدها تتالت الندوات إلى حدود عام 1992، وقد كان سي توفيق الرّأس المدبّر في كلّ هذه الندوات، يقترح المشاركين ويمدّني بهواتفهم أو يتّصل بهم شخصيّا وكان أهمّ إنجاز في هذا السّياق ملتقى الرّوائيين العرب الأوّل عام 1990 وملتقى الرّوائيين العرب الثّاني عام 1992، فعن طريقه عرفت قابس أثرى أيّامها الثّقافيّة إذ استقبلت أبرز الكتّاب العرب وتحوّلت إلى عاصمة ثقافيّة تستقطب المنشغلين بقضايا الأدب من مدن الجنوب. ومن الأشياء الّتي لا بدّ من ذكرها هو أنّه اقترح عليّ تكريم الرّوائيّ المصريّ إدوار الخرّاط. أذكر أنّه قال لي «الخرّاط كاتب كبير ولكنّه نظرا إلى أنّه مسيحيّ قبطيّ لا يريد المصريون أن يعترفوا بقيمته»، وهكذا كُرّم الخرّاط في مدينة قابس قبل أن يكرّم في بلده بعد أكثر من عقد.لقد كان سي توفيق معلّمنا. رحمة اللّه عليه.