يحزّ في نفسي كثيرا وأنا تابع -بعيون دامعة-ما تبثه الفضائيات هذه الأيّام من أحداث دامية تشهدها جهة قبلي وتحديدا بين أهالي قريتي بشنى من معتمدية الفوار والجرسين من معتمدية قبلي الجنوبية اللتين تحوّلتا «بقدرة ماكر» إلى ساحة حرب طاحنة تلتهم نيرانها النهمة أجساد الإخوة/الأعداء..ولكأنّ هاتين القريتين الحالمتين بغد أفضل أصبحتا فجأة قطعة من قطاع غزة زمن العدوان الصهيوني السافر على القطاع.. قبلي التي عرف أهلها بمكارم الأخلاق ورباطة الجأش عدا الصبر والصمود في وجه المحن والشدائد.. قبلي التي ظلّت شامخة ولم تنحن أمام الإستبداد السياسي والقمع البوليسي والقهر الإجتماعي الذي عاشته عبر عقدين ونيف من الزمن الجائر.. قبلي التي قال أهلها بملء الفم والعقل والقلب والدم:..لا..للمستبد المخلوع في ذروة الظلم والظلام ومصادرة الأرض والعرض.. ها نحن اليوم نرى-قريتيها:بشنى والجرسين وقد تحوّلتا إلى مداخن وتصاعد في أجوائهما الملبدة بالغيوم الرمادية والمتخمة برائحة البارود سؤال ملح ولجوج:من..»يقتل»..من..؟! ليست لدي إجابة جاهزة عن هذا السؤال بحكم المسافة الجغرافية التي تفصلني عن مسرح الأحداث،لكني أكاد أجزم أنّ تراكمات وأسباب مختلفة أفضت إلى ما أفضت إليه..ولعلّ من أبرزها البؤس الإجتماعي والشح الذي تعيشه المناطق الداخلية عامة على مستوى توفّر مواطن الشغل،عدا غياب الأمن وقوات الجيش و-هذه مسألة أخرى تستدعي منا مقالا منفردا-.. قلت لست جاهزا للإجابة عن الأسباب الحقيقية لهذه الأحداث الدامية التي تسببت في إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف-الإخوة/الأعداء-كان يفترض أن تربطهم علاقة الوئام والوفاق أو المصاهرة،ولكن يبدو أنّ نعرة العروشية مازالت تنخر تلك الربوع،وهذه النعرة اللعينة ضمن أسباب أخرى أوصلت أهالي هاتين المنطقتين (جرسين وبشنى) إلى هوّة»الجنون»حيث غدوا منها على الشفير.. وبما أنني لست من ذوي الإختصاص في علم الإجتماع كي أشخّص الأسباب التي تقف وراء بشاعة الجرائم المرتكبة،إلا أنني أعتقد جازما أنّ المسألة تتجاوز حدود العروشية لتؤشر لوجود أسباب أعمق تغذي الأحداث التي وقعت،فقبلي كغيرها من الجهات الداخلية عاشت عبر عقدين ونيف من الزمن كل أشكال الإقصاء والتهميش الأمر الذي أوصلها إلى حافة اليأس والإحباط لاسيما وأنّ الآمال التي عاشتها الجهة مع انبلاج ثورة الكرامة والحرية في أن تزاح من على عاتقها أوزار الفقر والحرمان ذهبت زبدا وطواحين ريح في ظل غياب إرادة سياسية واعية بحجم المعاناة التي عاشتها وتعيشها-اليوم أيضا-العديد من الجهات المنتشرة عبر ربوع الجنوب.. ومن هنا،قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ تعطيل مسار الإنتقال الديموقراطي،فضلا عن إنسداد الأفق السياسي أمام المواطن العادي واستشراء ظاهرة»الإشاعة المسمومة» في ظل غياب إعلام موضوعي،نزيه وشفاف،هذا بالإضافة إلى غياب أي تأطير سياسي وثقافي وإجتماعي للمواطن التونسي الذي رزح طويلا تحت نير الفساد والإستبداد وطمس الحقوق المشروعة،كلها عناصر ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في إهتزاز الأوضاع الأمنية-هنا..أو هناك-وفّرت أرضية خصبة لتفاقم المخزون الإنفعالي للمواطن التونسي المكتوى بلهيب الخصاصة والحرمان..وغلّبت بالتالي الفتق على الرتق حتى كاد أن يكون الواحد منا عدوّا لنفسه..! ما العمل؟ مما لا شك فيه أنّ الأحداث التي تشهدها جهة قبلي من خلال الإشتباكات العنيفة بين آهالي قريتي بشنى والجرسين،تبعث على الأسى والحسرة وتشعرنا جميعا بأننا في-مربع الخطر-ما لم تبادر-حكومة يوسف الشاهد-بحلحلة الإشكاليات المطروحة على مستوى الجهات الداخلية التي يخيّم عليها الفقر والتهميش،ومن ثم تسعى جاهدة لوضع مسألة التشغيل ضمن سلم الأولويات،كما أنّ لرجال الأدب والثقافة والإعلام..فضلا عن الحكماء والعقلاء دورا هاما في تفعيل آليات الحوار بين مختلف مكونات المجتمع المدني،و من ثم تغليب العقل على النقل.. أقول هذا،إيمانا منّي بأنّ الإنتقال الديموقراطي بتونس التحرير يستوجب توفير جملة من الشروط والضمانات لعلّ من أهمها الشفافية والوضوح،لاسيما ونحن نمر-كما أسلفنا-بفترة تحوّل ديموقراطي تؤسّس لبناء دولة القانون والمؤسسات في إطار الشرعية الدستورية نأمل أن تقطع(الدولة المرتجاة) مع كل مظاهر الإقصاء والتهميش بما يحقّق في المدى المنظور العدالة الإجتماعية والتنمية الشاملة والحرية الخلاقة والمناخ الديموقراطي السليم .. إلا أن هذه الإجراءات الواعدة تستدعي-كما أسلفنا-مقاربة تنموية وحضارية تشجع على الحوار بين مكونات المجتمع المدني وتستأصل جذور الداء(التوترات..الإحتقان..الفوضى العارمة..إلخ) ولن يتم هذا،إلا في سياق أفق ديموقراطي يترجم الوعي بالمسؤولية الوطنية والأمانة التاريخية وينآى عن القفز في المجهول.. ختاما،أوجّه نداء عبر هذا المنبر الإعلامي المتميز(الصريح أون لاين ) إلى عقلاء قريتي بشني والجرسين،وإلى الشخصيات الإعتبارية على مستوى الجهة إلى «تهدئة النفوس» بين المتنازعين من القريتين.. كما أدعو أيضا إلى ضرورة تدعيم الحضور الأمني والعسكري على مستوى المنطقة وبالآليات المتاحة التي يكفلها القانون.