هل انتهينا إلى أن الحياة لا يمكن أن تظهر إلاّ من حياة سبق وجودها؟ وهل يكون باستور... العالم الفرنسي والذي لم يكن طبيبا، هو من... أثبت نهائيا هذا الأمر؟ أثبتت الملاحظة الدقيقة أن الجراثيم رغم صغرها هي كائنات معقّدة. كذلك، اعتبر المنطق، أنّ... إمكانية تشكّل الجراثيم عفويا أمر لا يمكن تصديقه. وبالتالي فَقَدَ أمر التوالد من الوحل وغيره كلّ حقّ في الحياة.. وغاب عن كلّ نقاش علمي رصين. ومنذ ذلك الحين، أصبح الجواب على السؤال «كيف بدأت الحياة؟» غير ممكن. لأنّ الحياة وجدت بطريقة غير عادية. ويبدو أنّ الأغلبية الساحقة لمؤيّدي هذه النقاشات، قد مزجت ما بين مبادئ العفوية والفجئية. إذ أنّه لا يخطر ببال أيّ كان أن الحياة ظهرت تدريجيا وبالتطوّر. لكنّ ما غاب فعلا عن عامة الناس وحتى عن العلماء في تلك الفترة، هو البعد المهمّ للطبيعة:... ألا وهو عامل الزمن. حسب نظرية التطوّر، فإنّ الأشكال الحيّة التي يمكن أن نتأمّلها لم تظهر في الطبيعة عفويّا. فالواحدة تنحدر... من الأخرى مع تغيّر ات لا تظهر... إلاّ بمرور فترات زمنية كبيرة.... وتختلف الحيوانات والنباتات الموجودة الآن عن تلك التي عاشت منذ ملايين السنين. والأحافير المدفونة وبقايا الحيوانات أو النباتات التي عاشت في عهود بعيدة جدا هي دليل التغيير. نتيجة لذلك وخلافا لاعتقاد متّفق عليه عموما، فإنّ الكائنات ليست مستقرّة ولكنها تتغيّر على مرّ مراحل طويلة. وبما أنّ الكائنات تنحدر هكذا الواحدة تلو الأخرى متغيّرة بالتنوّع والانتقاء الطبيعي، ستبدو أشكالها الأكثر بساطة إذن هي الأكثر قدما. بُعد غير متوقّع، يظهر فجأة: عمق الماضي. دون إدراك الزمن الذي يعطي شكله، عمقه وتواصله مع الأشياء، يمكن أن يُشَبَّه أجدادنا بكائنات «مسطحة» في بعدين. الأشكال الحيّة التي يرونها حولهم ليس لها ماض ولا تاريخ. في نظرهم، تظهر هذه الأشكال فجأة وتلقائيا في إعادة لا نهائية مطابقة للحاضر. إذن، نفهم في هذه الحالة أنّ معرفة واكتشاف الأشكال الجديدة لا يمكنها إلاّ أن تنتشر في الفضاء، يعني ذلك في البعد. وهذا ما حصل. فباكتشاف الصغر غير المحدود والميكروبات، ينتشر المخطّط. لكنّنا لا نفهم دائما العلاقة الخفيّة التي توجد بين الكائنات. يمكننا أن نرتّب، نصنّف، وننظّم أشكالا ثابتة وغير متحرّكة ولكن يبقى أصلها معتّما. وعلى العكس، منذ إدراك «الشكل» الذي أتت به نظرية التطوّر، توقّفت الأشكال الحيّة عن الترتّب في الفضاء داخل أقواس واصطفّت، من الأكثر سهولة إلى الأكثر تعقيدا، في نظام زمنيّ حسب ظهورها بحيث تأخذ الأقواس شكل شجرة النسب. وبالعودة إلى الميكروبات، فإنّ الوجود المفاجئ لهذه الحياة المجهرية، لم يتمّ في شكل جيل متواصل. في نظر بعض العلماء، كان تطبيق أصل الحياة جدّ بسيط: جراثيم جُلبت بواسطة أحجار نيزكيّة أو بواسطة غبار فضائيّ، انتشرت في الأرض وذلك في ماضيها البعيد. هذه الجراثيم أعطت بعد ذلك ولادة، بتواصل التطوّر، لجميع أشكال الحياة الموجودة فوق كوكبنا. لكن، هذه النظرية المسماة بالتَّبَزُّرُ الشامل تصادمت باعتراضات جدّية. أحياء مجهرية منساقة في الفضاء فوق غبار ناتج عن ضغط الأشعّة، كما قدم الكيميائي السويدي سفانت أرينيوس سنة 1908، كانت تتعرّض خلال رحلتها الطويلة إلى ظروف قاسية جدا. من المحتمل أن تكون هذه الجراثيم قد تصارعت من أجل الحياة وبدت في شكل أبْواغ صامدة للمفعول الخطير للأشعة فوق البنفسجية وأشعّة الكواكب والحرارة القصوى. ومنذ عهد قريب وبالتحديد سنة 1977، اقترح كلّ من الفضائي البريطاني فراد هوبل ون. س. فيكرام ازينغهي أنّ لبِنات الحياة تتكوّن باستمرار في الكون وأن المذنّبات يمكنها أن تكون عبارة عن «مبعوثين» يجلبون على الأرض جراثيم الحياة ولكن في شكل فيروسات أو بكتيريات. هذه النظرية تمّ إعادتها سنة 1982 من البريطاني الحائز جائزة نوبل، ف. ه. س. كريك الذي أضاف للتَّبَزُّرُ الشامل التلقيح «التطوعي» للأرض بذكاء خارق! لكن، من غير الضروري توضيح أن هذه النظريات لا تزال تملك معارضة من طرف علماء آخرين. وأخيرا، إذا أردنا رسم شجرة تطوّر الكائنات فعلينا الانطلاق من البكتريات الأَوَّلاَنِيَّاتُ فالفطريّات. إثرها نجد السرخيّات فالإسفنجيات، فالسفّورات، أو توتياء البحر. بعد ذلك نجد الطحالب فالحشرات، ثم نجد الأسماك فالضفدعيات فالزواحف فالأطيار فالثدييات. وهذا المنوال من التطوّر لا يتحمّل أيّ نقض حتى من رجال الدين أنفسهم.. لكن لا يزال هذا المفهوم منتشرا بقوّة. حسبه، يمكن أن يكون الظهور المفاجئ، في فترة قديمة جدّا من تاريخ الأرض، لكائنات بسيطة جدّا (مشابهة للفيروسات) نتيجة لخلط كيميائي غير مقصود، انجرّ من المقابلة العفوية لبعض الخلاصات الموجودة في الأبعاد المطلوبة. لكي يحصل حدث بعيد الاحتمال، حتى لمرّة واحدة، يكفي تخيّل مدة طويلة بما فيه الكفاية «ليحضى بالصدفة». كما يقول ج. فالد: «... بمرور الوقت، يصبح ما هو غير ممكن ممكنا، الممكن يصير محتملا والمحتمل يصير تصوّرا أكيدا». آنذاك، تتطوّر «الجينات العارية» عند تكوينها وتعطي ولادة كلّ عالم الحياة بلعبة التغيّرات والانتقاء الطبيعي. ومثل هذا التداول للأحداث الذي يجلب المكوّنات الكيميائية اللازمة في مسافة معقولة، المواد المزوِّدة بالطاقة الضرورية، الحفّازات الضروريّة... وهذا يمثّل صدفة «إعجازيّة» بحيث لا يدهشنا البتّة. وقد أيّد هذه الفرضيّة، «هذه المعجزة» منذ ذلك الحين، كلّ العلماء. ولهذا السبب يكون للحياة أصل واحد وحيد. .... آنئذ، نعثر، وفقا «للخلق بالصدفة»، على المفهوم الموضوعي القديم للفجئية في ظهور الحياة. رغم ذلك، حقّق العلم تقدّما سريعا خلال هذه السنوات الأخيرة. كذلك، مكّنت الكيمياء البيولوجيّة، بيولوجيا الجزيئات والسّيِبَرْنِيَّات (علم عمليات التواصل والتحكّم في الحيوانات والآلات) من تكوين فكرة أكثر دقّة عن ظاهرة «الحياة». فهل من الممكن أن نقيم حدودا بين الجامد والحيّ؟ قديما، اكتشف المشرّحون والوظائفيّون المبهورون بالمِبضع، التنظيم الخارق لمكوّنات الحياة: الأعضاء، الأنسجة، الأوعية، الشعيرات، الأعصاب، العضلات والعظام. أمّا اليوم، فيجد علماء البيولوجيا الجزيئيّة والخلويّة أنفسهم في حالة مشابهة، لكن هذه المرّة... على مقياس الألف ملّمتر: اكتشفوا، في قلب الخليّة... نفسها، بفضل المجهر الألكتروني وتقنيات التوسيم، تنوّعَ وتشعّب... الأعضاء الجزيئيّة التي «تسيّر» الخلايا الحيّة. لقد سبق وأن دفع لويس باستور بحدود الحيّ موضّحا الدّور المهيمن للجراثيم غير المرئية بالعين المجرّدة بالرغم من إنّها تكون تارة مسؤولة عن أسوأ الأمراض وطورا تكون حليفة الإنسان في صنعه للأغذية والمشروبات. بتعليمنا أن نحمي أنفسنا ضدّ الجراثيم الخطرة، صار باستور... رائد الطبّ الحديث. لكنّه أيضا بتوجيهنا لكيفية ترويض حلفائنا الغير مرئيين، أصبح رائد الصناعة البيولوجيّة. قام كلّ من جاك مونود وعلماء البيولوجيا الجزيئية، بعد قرابة قرن، بتوسيع حدود البيولوجيا. هذه المرّة، باتّجاه... الجزيئات التي يدرسها الكيميائيون والفيزيائيون. بعدئذ، أقاموا جسرا بين عالم الأحياء المجهرية وعالم الجزيئات. ولأوّل مرّة، أصبح ممكنا، آنذاك، فهم وترجمة الآليات الأساسية للحياة بلغة المعارف والتفاعلات الحاصلة بسلّم الجزيئات. تتحول ساحة معركة الثورة البيولوجية، منذ ذلك الحين، إلى قلب الخليّة - البكتيرية حيوانية كانت أو نباتية- هو عالم رائع مسكون بالرسائل المرموزة، بأجهزة الاستقبال وشبكات الاتّصال وخزن المعلومات أو الآلات، المجهرية الجزيئيّة والأتوماتيكية. أستاذ في الطب، أمين عام الجمعية التونسية لتاريخ الطب والصيدلة