إشتد الصراع في الساحة السياسية للإستحواذ على أكثر ما يمكن من السلطة والنفوذ، نقول " الإستحواذ" لأن ما يحدث من صراعات ومناورات وتحالفات " حمائية" مشبوهة ، يؤكد أن الرغبة في إفتكاك الكراسي تجاوزت كل القيم والقوانين ومبادئ الممارسة الديمقراطية . لا شك أن التونسي قد أكد ، خلال السنوات الست الأخيرة أنه مسكون بهاجس السلطة ، وقد غرق حتى النخاع في أوهام يحرها، والدليل على ذلك هذا التناسل العشوائي الرهيب للأحزاب والمنظمات و"الدكاكين " السياسية، والإقبال الهستيري المكثف على الترشح للمناصب القيادية ، وتتذكرون جيدا الرقم القياسي الذي حققته بلادنا في عدد المترشحين للإنتخابات الرئاسية ، وحتى الأحزاب ذات المرجعيات الدينية لم تتخلف عن التكالب على السلطة ، بل كانت في مقدمة المهرولين ، بالرغم من أن تعاليم الإسلام نهت عن توظيف الرغبات في الوصول إلى الحكم بالفساد والتحيل والمغالطة والتآمر ، قال تعالى:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ." *اللهاث وراء الكراسي بدا وكأن التونسيين هم الأكثر إرتباطا عضويا وثيقا بخطيئة آدم وحواء الذين توصل الشيطان إلى إغوائهما للخروج عن طاعة الله بأن قطع لهما وعدا بتحويلهما إلى إلاهين بفضل ثمرة الشجرة المحرمة ، أي إلى صاحبي سلطة ونفوذ مطلقين لم يتعودا على إمتلاكهما عندما كانا بريئين ! لذلك يتميز المخيال الشعبي التونسي ب0ختزال السلطة في الدولة ، أي القيادة والحكم ! من هذا المنظور الخصوصي إنزلق السياسيون ، بكل أثقالهم، في منحدرات الصراعات الوضيعة ، لتتحرك أوحال بؤر ومستنقعات الفتنة النائمة ، تحت مظلات مختلفة ، حتى أصبح التحرك على أساس الإنتماءات العشائرية والقبلية والجهوية وحتى الخارجية أمرا عاديا . ظهرت المؤشرات الأولى لهذا الإنزلاق الخطير في رحاب المجلس التأسيسي، غير المأسوف على رحيله، عندما تحول إلى منبر مفتوح على المشاحنات الجهوية والمزايدات الشعبوية التي تنزل في أغلب الأحيان إلى حضيض التعصب المقيت، وتواصل، ولو بأقل حدة ، في مجلس نواب الشعب الحالي، الذي خيب أعضاؤه ظن المواطنين في أكثر من مناسبة وآخرها تصويته على قوانين وإجراءات تتعارض جملة وتفصيلا مع رغبات الشعب وتطلعاته، كالقانون الذي يبيح تعاطي " الزطلة " وآخرها القانون الذي يمنع المصالحة بين الزوجين في حال تعرض أحدهما للعنف من قبل الآخر ، و0ستشرى الخطر في وسائل الإعلام ، بدعوى نقل الواقع كما هو وتعرية الحقائق التي طال التعتيم عليها، والكشف عن المسكوت عنه وممارسة حرية الرأي والتعبير، وكم ب0سم كل هذه القيم تقترف الآثام ! وهاهي الصراعات المضطرمة بين بعض الأحزاب والتجاذبات بين اللاهثين وراء كراسي السلطة ، " تغرف" من هذه المستنقعات الموبوءة ويستغلها المتربصون بالوطن، بالداخل والخارج، لتنفيذ مخططاتهم التخريبية . لقد أخذت هذه المسألى ، خلال السنوات الست الماضية، أبعادا مخيفة وغدت مادة مسمومة للمزايدات السياسوية الرخيصة والمبتذلة ، التي تهدد المسار الديمقراطي برمته وتعرض إستقرار البلاد وأمنها للمخاطر *تردد و0رتباك في هذه الأجواء المتوترة، التي زادتها الأوضاع الإقليمية والدولية مزيدا من التوتر ، تحاول حكومة يوسف الشاهد ، ولو بكثير من التردد والإرتباك فتح ميسالك للأمل أمام المواطنين المحبطين لكن دون جدوى ، إلى حد الآن على الأقل بعد تعدد الضغوطات من كل حدب وصوب وتكثفها وتصاعد حدتها من قبل الأطراف الإجتماعية والنقابات واللوبيات المهنية والتحركات الشارعية ذات الأهداف المطلبية ، كتلك التي يقودها مواطنو المناطق التي تصنف " مهمشة " ، والمعطلون عن العمل الذين تضاعف عددهم، وأصحاب المكاسب الجديدة التي تحققت لهم في ظل الفوضى والإنفلات وغياب سلطة الدولة ، و" أثرياء الثورة " . كل هذه الضغوطات المتزايدة يوميا، بسطت مناخا من الشك والحيرة والقلق والخوف في البلاد ، وبثت شعورا بالإحباط وخيبة الأمل لدى المواطنين ، وخاصة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة الذين يمثلون الشرائح الإجتماعية الأكثر تأثرا ب0نخرام الأوضاع السياسية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية في البلاد. يمكن القول ، والحال تلك، أن حكومة يوسف الشاهد " عالقة " بين مطرقة صراعات المتكالبين على السلطة ، وسندان الأزمات الداخلية المتفاقمة والضغوطات الخارجية الرهيبة، وهو ما حكم عليها ، كما حكم على التي سبقتها، بالإرتباك والتردد والإرتجال و" الترقيع". إن كان التحوير الوزاري ضروريا وحتميا في مثل هذه الظروف لتعديل بعض " الأوتار" ، والتخلص من بعض الوزراء عديمي الكفاءة والذين فشلوا فشلا ذريعا في مهامهم، وكنا ذكرنا البعض منهم في تحاليل سابقة، فإن خطورة الأوضاع تتطلب حلولا جذرية أخرى، كأن يغير يوسف الشاهد المعادلات ، وينسف كل مرتكزات الوضع الفوضوي الذي تشكل بعد الرابع عشر من جانفي ، وبالتالي " قلب الطاولة " على الجميع ، خاصة وأن ذلك سيمكنه من شعبية إضافية ودعم قوي من أغاب الشرائح الإجتماعية التي تتطلع لقرارات تاريخية جريئة تقطع مع وضع متدهور .