كنت اترقب من كتاب تاريخ تونس اليوم، ومن المؤرخين الجدد الذين انبعثوا بعد الثورة، وهم من الذين مارسوا الحكم طيلة سنوات، مستغلين مناصبهم للتدرج فيها، لقربهم لئولي الامر، فكانت لهم الرتب والمسؤوليات العالية في الدولة، واجتازوا بسلام كل المراحل التي مرت بها تونس قبل الاستقلال وبعده، شملتهم الوظيفة التي يتناسونها في تاريخهم وهم يشهدون اليوم على شرفاء تونس، وفي الواقع يدونون تاريخهم، بكل فخر، متناسين تلك المقولة "اذا لم تستح فاكتب ما شئت"، وللذين عاشوا تلك التطورات، شاهدين على عصرهم، ولا تغرنهم الخرافات المفبركة، مزيفة في بعضها، أتيحت لهم الفرصة، لتصفية حساباتهم، وتنوير صورتهم، بالادلاء بشهادات وتخمينات، جلها من صنع مخيلتهم، وقد عرفوا بولاءاتهم الى اصحاب النفوذ، يخدمون ركابهم، ويهتفون لتصرفاتهم، التي ادت بالبلاد الى ما هي عليه اليوم من تقهقر اقتصادي، واجتماعي، وحتى بيئي. كانوا يؤدون خدمات يعرفها من كان يشرف على سير الدولة، يعتبرون أنفسهم اليوم، ان لهم باعا في مسيرة الامة، وكانوا، في الحقيقة، من ابواق صناع القرار، يخططون لهم، فيمتثلون للإنجاز، ولو بادر الذين يعرفون الحقيقة، لركن هؤلاء للصمت الرهيب، وكان الاجدر بمسيرتهم. بادرت شخصيا بكتابة مقالات نشرتها في أعمدة جريدة "الصريح" مشكورة، وهي عبارة عن مساهمة شخصية حينية، لما يدور من جدل على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي، منذ انبعاث الثورة المباركة، جمعتها لعلها تفيد أهل الذكر، وتثير النقاش لبناء الجمهورية الثانية، التي هي حلم كل التونسيين، مهما اختلفت مشاربهم الفكرية والعقائدية. وحتى يكون القارئ على بينة من الهدف الذي ارمي اليه من جمع ما حاولت التطرق اليه، والتعبير عنه، في كل المقالات، ان اضفي، من وجهة نظري، ما استنتجته من جراء المسؤوليات العديدة والمتنوعة التي مارستها، وحاولت القيام بها على الوجه المطلوب. وقد كلفتني في العهد البائد، عهد المخلوع، ثمنا باهظا، اذ أعفيت من مهام رئيس ديوان وزيرة الصحة، في نوفمبر 1987، وأجبرت على الحضور يوميا إلى وزارة الداخلية، على مر تسعة اشهر، وحرمت من جواز السفر لمدة ثلاث سنوات، ووضع حد لتدرجي في حياتي المهنية، ولم تستثن عائلتي من تبعات مماثلة. وتوجهت إلى العدالة بشكوى ضد الوكالة العقارية للسكنى، مدعمة من طرف وزارة املاك الدولة، وأنصفتني العدالة مشكورة بمراحلها الثلاث حتى ولو طال الخصام أكثر من عشرة أعوام، ذقت خلالها الامرين ولسائل لماذا هذا التعدي من رموز الدولة وهذه الاضطهادات المسلطة وكان من الأجدر الاتجاه الى العدالة ان ارتكبت مخالفات أو أخلت بواجب يستحق ذلك. كان المطلوب مني أن أدلي بشهادات وأن أكتب ما أعرفه عن محمد الصياح، الذي شرفني بإدارة ديوانه، أكثر من أربع عشرة سنة، رافقته في مهامه من سنة 1973، حيث انتدبني من المهجر، وكنت اذ ذاك مدرسا في باريس. كلفني بمأمورية في وزارة الشباب والرياضة في بادئ الامر، ثم كانت مسيرتي معه في كل المهام التي أنيطت بعهدته، من وزير الشباب والطفولة، ووزير معتمد لدى الوزير الاول ومدير الحزب الاشتراكي الدستوري، الى وزير التجهيز والاسكان، وكان ذلك حتى سنة 1984. عملت، طيلة المهام التي كلفني بها، والتي تواصلت أكثر من عقدين، مع فرق غايتها خدمة الغير، والتفاني في اداء الواجب، رحم الله من غادرنا منهم الى جوار ربه، ورزق اهلهم وذويهم، جميل الصبر والسلوان. ليس من السهل طرق المواضيع التي باشرتها، ولا من الهين لغيري رسم صورة واقعية، لما قدمه محمد الصياح في كل المسؤوليات التي كلفه بها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، من خدمات كبيرة لبلاده، ومن مساهمة فعالة في بناء الدولة العصرية التي ننعم بالعيش فيها اليوم، ولا أريد الخوض في هذا الموضوع، كما تطرق اليه أصحاب المذكرات، والسير الذاتية، وكل من كان يدعي معرفة السياسة وخفاياها، وكان بإمكاني ذلك اذ عشت اطوارها ولكن أفضل تركها للباحثين لتدارسها عن روية، كل حسب مراجعه، ووجهة نظره. ومن البديهي ان أجزم ان الاجيال ستذكر اخلاص هذا الرجل وتفانيه، ووفاءه لمبادئ بورقيبة التي آمن بها، ودافع عنها، ودعا اليها، بفخر واعتزاز، وبغيرة وحماس، بكل ما أوتي من عبقرية في الكتابة، باللغتين العربية والفرنسية، وكل يشهد له بباعه في حسن الاستنباط والتصور المستقبلي، وما كان يوما يلتجئ الى التعاطف مع أي كان مهما كانت مسؤوليته في الدولة او في الحزب، ولا يحتاج الى أي شهادة في وطنيته. محمد الصياح هو سيد في حياته، وفي تفكيره، وفي منهجيته، يصدع برأيه، ويعلن حبه لتونس، واعلاء كلمتها في ارجاء العالم، فلم يتجرأ ولم يقل يوما انه يكتب تاريخ تونس، بل اختار لما كتبه عنوان: "سلسلة من مقالات من تاريخ تونس جمعها وعلق عليها" الكاتب محمد الصياح، ولما طلبت منه "، ذات يوم، تسمية عمله بتاريخ تونس" اجابني بانه يمكن لأي كان ان يختار مثله، ويتبع منهجه، وكل من منظاره، وحسب هويته، وانتماءاته، فينمي تاريخ تونس، حتى يقدم للأجيال الصاعدة بكل شجونها وهي الوحيدة التي لها ان تفرز بنفسها الغث والسمين. دخل الصياح ورفاقه معترك الحياة السياسة، وترك فيها سماته، إذ كان فاعلا فيها وشاهدا على أحداثها، وصادقا في رؤاه لمسارها ومتحملا تبعات الدافع على مبادئه. وكان من حظي ان أرافقه في جل المحن التي مر بها، منذ عودتي من باريس التي كان له الفضل فيها. حاولت جاهدا أن أكون في مستوى المسؤولية التي حملني اياها وإعانته، قدر المستطاع، على انجاز المشروع البورقيبي الذي كان من رواده، لأنه يعتقد انه الحل الاجدر، لبناء الحداثة، ومواكبة التقدم والرقي. وفي هذا المضمار حاول شرذمة، ممن ليس لهم تاريخ يذكر، التشويه بما أنجزه عن دراية وتبصر، الانتقام من الذين آزروه، وهم كل من آمن بالعمل الصالح في خدمة الغير، لكن التاريخ كان للمفسدين بالمرصاد، فحطم أمانيهم، وشرد أزلامهم، ورمى بهم في واد المذلة والعار، لفقدانهم الوعي، وتشبثهم بالمسؤولية. ولا شك أن العدالة ستقول يوما كلمتها في من خان الامانة، واستولى على النفوذ، بغية تحقيق مآربه، وتصفية حساباته. وما أتذكر يوما، وقد رافقت الصياح عشرات السنين، انه مجد دوره، او تباهى بإنجازه، أو عمل على الاطاحة بمن لا يشاطره الفكر، ولنترك للذين عملوا معه في الحزب وفي مختلف الوزارات او على الصعيد الديبلوماسي الحكم له او عليه. وعند مغادرته البلاد، لتحمل مسؤولية سفير، باشرت، في سنة 1984، رحلة جديدة كمستشار في مرحلة أولى، ثم رئيسا لديوان السيدة وزيرة الصحة الدكتورة سعاد اليعقوبي ولم تنقطع صلتي به وكان كعادته نصوحا لما فيه خير الامة، وكنت اتردد عليه كل يوم، وكان المرحوم البشير بوهلال طاب ثراءه من ملازميه في كتاباته، تعلمنا منه امعانه في التفكير وقوته في الكتابة باللغتين، فكان لنا المدرس والمثال في الاتقان. صفحات يمليها، ثم يعود لشطبها لأنها لا تؤدي المعنى الذي يرمي اليه، ولا احد يضاهيه في هذا الميدان. أطيحت، في انقلاب السابع من نوفمبر، فرصة لبعضهم تهديم لحمة فريق كان سدا منيعا لطموحاتهم، فضربوا بدون هوادة من يعطل نفوذهم، وأقالوا بدون موجب، يرمون من وراء ذلك نهاية مسيرات أرادوها قاضية على المستقبل وعلى الطموحات المشروعة. وفي خاتمة كلمتي، تابعت بكل انتباه حلقات الاستاذ الطاهر بوسمة (وال سابق) والسيد مختار الشواري (وال سابق) والاستاذ محمد صلاح الدين المستاوي شهاداتهم، كل من وجهة ما يعرفه عن هذا الرجل المناضل الوطني، الغيور على بلاده، وهي مقالات في نظري لا تستحق لا الرد ولا التعليق، تبرهن في تجرد عمّا عرفوه من خلال معرفتهم لمسيرة الرجل، ونضالاته في سبيل تونس، لإرساء مسارها والدفاع عن كيانها. ولا يفوتني ان انوه مجددا ببعض العناوين التي روت بكل ذكاء وفي العمق مسيرة الرجل، ورحلته السياسية. وكم كنت آمل مشاركته الفعالة ورؤاه الثاقبة في محاربة ما تتميز به البلاد اليوم من تذبذب في المواقف وما تشكوه من نقص، وإهمال في الجانب الاقتصادي، وتنوع مشاكله الحياتية، من بطالة، وتداين، وطلبات متزايدة باستمرار، وممّا انجر عنه من تدهور في القيمة الشرائية للمواطن، ومعاناته اليومية الذي تستوجب المزيد من التآزر، والوحدة، لتطبيق إصلاحات ضرورية والبحث عن منهجية مستقبلية، تضمن حل الشاكل، وبعث الأمل، لكل من آمن بالثورة، وعمل على تحقيق غاياتها، وكان بإمكان الصياح التصور المستقبلي، حيث كان سباقا للأحداث، ورائدا من رواد التطور والرقي، في كل الميادين التي مارسها، بتكليف من الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، لكن المرض دفعه الى السكوت، وتلك هي مشيئة الله في خلقه، ومحمد الصياح سيبقى من كرس حياته لخدمة الغير، مثالا للأخلاق والبذل والعطاء، فهو منارة مضيئة لا تنطفئ في تاريخ تونس، وسأبين ذلك بحول الله، بالحجة والبرهان، في مقالات لاحقة. أطال الله عمره، و وفره الصحة حتى يعود الى ميدان السياسة لان البلاد في حاجة اليه والى امثاله.