وفعلا مَنْ كان يعرف عند نزول القرآن أنّ ضوء الكوكب قمر ليس نابع منه؟ أي أنّه ليس ضياء بل ما هو إلّا نور أي أنّه ضوء الشمس المنعكس .لكنّ الله يقول لنا وجعلتُ من القمر نورا أي بمعنى آخر القمر لا ينتج مثل الشمس ضياء صادر عنه بل نور القمر ضياء ناتج عن الضوء الذي يأتي للقمر من الكوكب شمس لأنّ كوكب شمس" في اشتعال مستمرّ لذلك فهو ينتج ضوء.و هذا الضوء هو الذي يقتصر القمر على عكسه على الأرض. هنا –نعيدها ونكرّرها- يكمن الإعجاز. وهذا ما نجده فعلا في اللغة العربيّة القديمة الكلاسيكيّة والتي كانت مستعملة عند نزول القرآن فكلّ ضياء هو ضوء مباشر ناتج عن مادة في حالة اشتعال أمّا النور فهو ضوء غير مباشر مستمدّ من الشمس ينير جسما يستمدّ ضوءه من جسم مشتعل من سراج مثلا وسيحاول الطالبي دعم ما سبق بالرجوع إلى أمّهات مراجع اللغة العربيّة فيبدأ بلسان العرب الذي هو سيّد المراجع أين نجد تحت مادة ضوء ما يلي":ضوء السراج .وإضاءة النار.في حين أنّ نور لا يطلق على السراج ولا النار ولا على أي جسم يضيء بنفسه وبالمعنى الحقيقي للمعنى" .أمّا في مادة نور فلسان العرب يحدّد معنى هذه الكلمة كما يلي":هو ما يغلّف أشياء من الخارج ويجعلها ترى بالعين في حقيقتها". أمّا دائرة المعارف الإسلاميّة فإنّ فصل "نور" كتبه الألماني"هارتنار" من جامعة فرانكفورت وهو مستشرق كلاسيكي لذلك فإنّ الطالبي ينبّه إلى قراءة ما كتبه بكلّ احتراز وبفكر نقدي مع اعتبار الحكم المسبّق للمستشرقين على الإسلام الذي لا يكون دائما نزيها. ثمّ إنّ من باب الاستعارة ينعت القرآن النبّي بالسراج المنير في سورة الأحزاب آية46 إذ يقول":داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا." أمّا منجد اللغة عربيّة القديم الكلاسيكيّة" تاج العروس" فصاحبه يدقّق بوضوح من ناحيته في هذا الاختلاف ويُبرزه عن طريق الاستدلال بالنصوص العربيّة القديمة. إنّ اختصاص كلّ لفظ من اللفظين بمعنى خاص به غير قابل للنقاش لغويا وقد برهنّا عن هذا الفارق وقد استعان تاج العروس بلغة "علم الكلام"ليزيد الفارق في المعنى دقّة وذلك بالاعتماد على مفهوم "الذاتي والعرضي".إذ نقرأ في مدخل كلمة ضياء ما يلي:"نسمي ضياء ما هوّ مضاء بالذات مثل الشمس والنار أمّا "نور" فتطلق على ما هو منارا عرضا أي تستمدّ النور من خارجه وهذا واضح الآن إذن في مصطلح لغة علم الكلام الضياء هو من الذات والنور هو عرض. الضياء هو ضوء مباشر ناتج من الذات من جسم مشتعل الذي يعطي نارا هذه النار تنتج إضاءة وهذه الإضاءة هي التي نسميها بدون أي شكّ "ضياء".أمّا النور فهو ضوء غير مباشر ونحصل عليه عرضا يلمّع جسما مضاء من الخارج بضياء من مادة محترقة".لكن لا لسان العرب ولا تاج العروس يذكر القمر. ولا يقولون لنا هل القمر هو في حالة اشتعال وينتج ضياء مثل الشمس أم لا؟. وهذا راجع إلى أنّ المسألة لا تعنيهم فهؤلاء الكُتّاب هم لغويون وليسوا علماء فلك وإن هما لم يطرحا الموضوع فليس معنى ذلك أنّهما يجهلان ذلك لأنّ كلّ ما اطّلعنا عليه يجعلنا نفترض العكس. أمّا الرازي الذي كان فيلسوفا فقد طرح السؤال و سنرى الإجابة لاحقا. فالعربيّة الكلاسيكيّة المستعملة عند نزول القرآن –كما سبق أن شرحنا-تُفرّق بدقّة وبدون لبس بين معنى ضياء من ناحية ومعنى نور من ناحيّة أخرى فمعنى الكلمتين لم يكن مختلطا ولم يكن ممكن أن نستعمل أحدهما مكان الآخر وفي النصّ القرآني أحدهما هو ضوء جسم مضاء بذاته ويبثّ الضوء الذي ينتجه أمّا الآخر فهو ضوء جسم مضاء من الخارج عرضا ويعكس الضوء الذي يتلقّاه إذا ترجمة الطالبي تكون لغويّا مدعّمة وهي الوحيدة التي تبرز العلامة التي يحدّثنا عنها القرآن بدون شكّ.(يفصّل آياته لقوم يعقلون) هذا التخصّص لكلّ من الكلمتين في التعبير عن معنى مدقّق قد أكّده القرآن فالقرآن لم يستعمل في نصوصه كلها الكلمتين باستقلال أحدهما عن الأخرى.فهو عندما يذكر مثلا الذين يهيمون في الخطإ يستعمل استعارتين أحدهما ضياء للإضاءة المباشرة الناتجة عن مادة مشتعلة والذي تكون إمّا نار نشعلها أو برق يخترق بسرعة السماء والذي يمكن أن يتسبّب في بعض الأحيان في حريق يشعل نارا .أمّا النور فهو بوضوح ضوء غير مباشر منعكس من الجسم الذي تلقى الإضاءة يقول تعالى:"مثلهم كمثل من استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حولهم ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون."(البقرة آية17) في هذه الآية الضياء هو إضاءة مباشرة ناتجة عن نار أمّا النور هو الإضاءة الغير مباشر المرسلة من نار ومنعكسة على كلّ ما هو حولها- لابدّ أن نشير أنّ نور في هذه الآية له معنى عقائدي والذي يأتي دائما في تقابل مع الظلمات وهذا متداول في القرآن- و لو تمادينا في المزيد من التعليق قد ننساق لتحاليل تطول لكن المقام لا يسمح بذلك لأنّه سيقودنا للحديث عن الصوفيّة والفلسفيّة وليس هذا موضوع بحثنا. أمّا الاستعارة الثانية نجدها في سورة البقرة الآية20 حيث يقول تعالى":يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كلّ شيء قدير."ّ لقد ذكرتْ الشمس في القرآن 33مرّة وكان يشار إليها مرة بالسراج الوهّاج من باب التشبيه مثل ما جاء في سورة المراسلات الآية 13 :"وجعلنا سراجا وهّاجا" واستعملت مّرتين باستعارة سراج فقط الأولى في سورة الفرقان آية 61 :" "تبارك الذي جعل في السماء بروج وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا".والثانية في سورة نوح الآية 16"وجعل القمر فيهنّ نور وجعل الشمس سراجا" . وبذلك لم يبقى أي شكّ حول طبيعة الشمس.أمّا في ما يخصّ القمر الذي ذكر 27 مرّة في القرآن لم ينعت أي مرّة بلفظ يحيل على أي اشتعال بل يأتي دائما في تقابل مع الشمس ففي سورة الحجّ الآية -16 يقول تعالى :"وجعل القمر فيهنّ نورا وجعل الشمس سراج" أي ضياء منعكس وهو(القمر) في الآية 61 من سورة الفرقان"تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا" منير يعكس الإضاءة ويمكن أن نلخّص ما سبق في أنّ الشمس تقوم بدور المولّد الكهربائي أين الاشتعال ينتج الحرارة والضياء أمّا القمر فيتلقّى الضياء الذي هو ضوء الشمس ويبعث نحو كوكب الأرض انعكاسه وهو الذي يسمّيه القرآن نور والله يقول لنا في سورة يونس الآية 5 أنّه"قدّره منازل"وكيف ذلك ؟ هذا ما لم يكن معلوما عند نزول القرآن لكن اليوم نعلم أنّ الكوكب قمر يدور حول نفسه ويدور في نفس الوقت حول الأرض وهكذا يدخل في مخروط الإضاءة الشمسيّة ثمّ يخرج بتدرّج. وكان الله يعلم أنّ العلماء سيكتشفون هذا في الوقت الذي يريده هو لذلك وجّه الخطاب لهم خصّيصا في قوله تعالى"يفصّل الآيات لقوم يعقلون"وبالنسبة لنا هذا إعجاز علمي ولا يهمّنا موقف الذي لا يؤمنون إذ لو يبدؤون بالإيمان بهذا الإعجاز العلمي سيضطرون للإيمان بكلّ الآيات التي عرضها الله على رجال العلم وبذلك يصبحون مسلمين وينتهي معهم الجدال لذلك نقول لهم لكم الحريّة المطلقة لكي لا تؤمنوا لأنّ الله يقول في سورة لبقرة الآية256 ":لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" فاللفظ ضياء والفعل أضاء في جميع صيغه ذكر في القرآن 6 مرّات أمّا اللفظ نور فقد تكرّر40 مرّة بدون أن يكون أي تداخل بين معنى اللفظين ففي لغة القرآن الضياء هو الذي ينتج دائما عن اشتعال أمّا اللفظ نور فلم يذكر إطلاقا في القرآن أنّه ناتج عن اشتعال فالنور في القرآن هو ضوء منعكس على جسم مضاء من مصدر إضاءة كما يأتي في القرآن بمعنى عقائدي أي هو صادر من الله الذي هو نور مطلق. إنّ المدوّنين الأوّلين الذين كتبوا قبل بن الهيثم يبدو أنّه لم يروا أي إشكال في آية الخامسة من سورة يونس(موضوع بحثنا) لذلك لم يعيروها اهتمام خاص فالطبري الذي توفّي في 922 لم يخصّص لهذه الآية إلّا نصف صفحة وقد اكتفى بقول": إنّ الله هو الذي أضاء الشمس وهو الذي أنار القمر"وكما أشرنا إليه سابقا فإنّ الرازي هو أوّل من شغله هذا الموضوع- هذا حسب علمنا-إذ خصّص في تفسيره للآية الخامسة من سورة يونس عشر صفحات تبرز حيرته فهو يتساءل لما الضياء يأتي دائما مقابلا للنور ؟ فلا أحد يشكّك في أنّ الرازي يعرف اللغة العربيّة معرفة جيّدة ولا يمكن أن يكون جاهلا للفرق بين اللفظين عند علماء اللغة وكفيلسوف لا يمكن أن لا يكون على بيّنة من نظريّة ابن الهيثم حول الضوء فلماذا هذه الحيرة إذن؟ والجواب هو أنّ الرازي كفقيه أشعري يرفض كلّ تفريق بين الذاتي والعرضي فهو يقول ليس هنالك إلّا العرضي فهو ينطلق من مبدء أنّ الضوء ضوءان ضوء الشمس وضوء القمر لهما نفس الأسباب الأوّليّة وهو الله فهما إذا من نفس الأصل ولا يختلفان إلّا في القوّة إذ يقول ": الناس يختلفون في الأشعّة الذي تفيض من الشمس هل هي جسم أو هي أعراض؟ الحقيقة هي أعراض.فعندما يقول الرازي "الناس يختلفون فهو بدون شكّ يشير إلى أشياء منها بن هيثم لكن لا يطيل هنا الوقوف بل يركب تفاسير مناسباتيّة هي من حيث المبدء لا تختلف عن تفاسير الفقهاء ويلتقي هنا مع توجّهات فلاسفة الغرب النصراني القراوسطي مثل توماس داكان (1225-1274)أو مالبرانش(1638-1715) فبالنسبة للرازي ليس في الآية القرآنيّة المعنيّة أي علامة خاصة تميّزها إذ يرى أن الشمس لا تنتج من ذاتها الأشعّة فلا الشمس ولا أي كائن آخر ينتج شيئا من ذاته الشمس ليست السبب لكنّها السبب العرضي لأنّ الله الذي يخلق الضياء والنور وهي عادة مستمرّة بالنسبة للشمس أو القمر أو بالنسبة لأي كوكب آخر. فإنّ الرازي بهذا الأسلوب جرّد الآية القرآنيّة من أي آية(علامة) فبالنسبة له ليس هنالك أي آية(علامة) خاصة ومحدّدة . أمّا البيضاوي الذي توفّي في1286 والذي كان كذلك مفسّرا للقرآن لكن لا فيلسوفا ولا فقيها بل كان نحويّا والذي نخطئ عندما نعتبر شرحه هو مجرّد تلخيص للمعتزلي الزمخشري الذي في كتابه الكشّاف لم يخصّص إلّا بعض الأسطر للآية القرآنيّة موضوع بحثنا ليقول ":الضياء هو أقوى من النور" لكن البيضاوي في شرحه للآية المعنيّة فهو المفسّر الوحيد الذي ينقل لنا بوضوح نظريّة ابن الهيثم بدون أن يسمّيه.ولكن دون أن ينسبها لنفسه كذلك.حيث يكتب": ويقال كذلك أنّ ما يكون من الذات هو ضياء وأنّ ما هو عرضي هو نور فالعليّ(الله) حدّد أنّه خلق الشمس مضيئة بذاتها والقمر مضيء عرضا حتى يواجه الشمس و يتبعها". بعد هذا العرض لشروح اللغوييّن ومفسّري القرآن والفلاسفة الفقهاء سنختزل القرون ونذهب مباشرة لمفسّر القرآن التونسي الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1973 فهو رغم أنّه من المفروض أنّه قد عايش بداية غزو الفضاء لم يثر أي إشكالعند تفسيره لهذه الآية القرآنيّة فلم يتعرّض لا إلى الذاتي ولا إلى العرضي بل حبّر خمس صفحات بدون أي طعم وتبعث على الملل ليشرح لنا طولا وعرضا محاسن تداول الليل والنهار ويكتفي بذلك. والخلاصة التي توصّل إليها الطالبي بعد البحث:أنّه لم يطّلع أي إمام أو فقيه على نظريّة ابن الهيثم- لا واحدا إطلاقا وبدون استثناء – هذا العالم المسلم الذي سبق الغرب بقرون في هذا الميدان فالتفسير العلمي للآية أي العلامة التي أعلن عنها الله في الآية القرآنيّة لا شكّ فيها .وقد حرصنا على إبرازها وتوضيحها وعندما نَكُون على يقين لا يهمّم االمُتحَدْلِقون إذْ "ابن الهيثم "برهن على أنّ ضوء القمر يأتي من الشمس وهو موضوع أفاض في تحليله في "الدراسة التي قام بها بمفرده" والتي يتظاهر الغرب والعالم اللاتيني بأنّه يجهلها ولا يعرفها بعنوان" مقالة في ضوء القمر" يحلّل فيها تركيبة العين ويشرح موضوع" النظر بالعينين و في الكتاب الرابع يتناول موضوع قانون الانعكاس وقد توصّل لحلّ الإشكال الصعب الذي طرحه وهو يحمل اليوم اسمه إذ كتابه الأصلي الذي يحتوي على 70 مقالة واسمه "كتاب المناظير"ترجم إلى اللاتينيّة ونشر في بال سنة 1572 من طرف "فريديريك رِسْنَارْ"تحت عنوان"تيسوريس أبتِيسوس". لقد قال لنا سبحانه وتعالى أنّه يظهر آياته لقوم يعقلون أي للعلماء ومن بين العلماء" ابن الهيثم" الذي كان أوّل من اكتشف علميّا العلامة الموجودة مصداقا لقوله تعالى يفصّل الآيات لقوم يعقلون هذه العلامة التي كانت موجودة قبل ابن الهيثم لغويّا في الآية القرآنيّة الخامسة من سورة يونس. ويختم الطالبي هذا البحث بقوله": هذا الذي حاولنا إبرازه فبالنسبة لنا "هنالك إعجاز".