خلال كل الندوات الفكرية واللقاءات الحوارية التي تهتم بالشأن الاقتصادي وتعالج القضايا المالية وكل المشاكل الاجتماعية المتولدة عنها حصلت لدي قناعة بدأت تتأكد يوما بعد آخر من أننا عاجزون على الإجابة على أسئلتنا المصيرية وبأننا نتوفر على نخبة سياسية لا يعول عليها في تحقيق تقدم ينتظره الجميع وهي عاجزة فكريا على صناعة البدائل وفاشلة في التعاطي مع إكراهات الواقع ورسم مستقبل حالم .. فتونس بلد صغير عدد سكانه لا يفوت 11 مليون نسمة حسب آخر تعداد سكني .. نصفه من العجائز وصغار السن والنساء القابعين في البيوت من دون عمل والمتقاعدين من الوظيفة ونصفه الآخر من الموظفين وأصحاب الأعمال الحرة ومن الشباب . وإذا استثنينا فيئه الشباب وشريحة العاطلين عن العمل فان بقية الشعب لا يمثل إزعاجا حقيقيا لمن يحكم وهو لا يرهقه كثيرا وبلغة الأرقام فإن الشباب في تونس عددهم لا يتعدى 30 % من إجمالي عدد السكان حسب تقرير للبنك الدولي أي حوالي ربع سكان تونس هم من الشباب من ضمنهم 625 ألف في وضع البطالة القصرية أي أقل من خمس السكان النشطين ( السكان النشطين عددهم 4077 ألف حسب المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2017 ) ومع ذلك فإن الدولة عاجزة عن الاحاطة بهم وعن ايجاد الحلول المناسبة لهم . ورغم تونس لا يوجد بها 100 مليون ساكن ولا 70 مليون نسمة ولا حتى 50 ولا عشرين مليون فرد وإنما كل القضية محصورة في بضعة ملايين شريحة الشباب والعاطلين عن العمل يمثلون فيها عدد العاملين في مصنع من مصانع الصين أو عدد الموظفين في شركة اقتصادية من الشركات العالمية الكبرى ومع ذلك تعجز الدولة عن ايجاد المصاعد الاجتماعية لهم وتفشل في العناية بهم ومرافقتهم وتوفير الحلول اللازمة لهم. ما يحير هو كيف تعجز كل الحكومات عن معالجة مشاكل أكثر بقليل من مليوني شاب ؟ وكيف تفشل كل النخب السياسية في تطويق الأخطار التي تحدق ببضعة ألاف من الشباب التائه والضائع والشارد والذي لا يرى له مستقبلا في بلاده نتيجة تخلي الدولة عن القيام بواجبها. اليوم لدينا طبقة سياسية سواء من كان في الحكم أو في المعارضة لا يعول عليها في انقاذ شبابنا من المخدرات ومن الإنتحار ومن الهجرة السرية ومن الانحراف والإجرام من التطرف . . لدينا طبقة سياسية لا يعول عليها في صناعة الأفكار الجديدة والبدائل الممكنة وهي متوفرة لاتقاد هذا الجيل الذي دمروه واضطروه إلى حل كل مشاكله بمفرده وبطريقه الخاصة والحال أن حل المشكل لن يكون إلا جماعيا وأن الخلاص لن يكون فرديا وإنما في اطار مشروع وطني وخيارات تنموية حقيقية لذلك قرر هذا الشباب واختار هذا الجيل أن يفك ارتباطه بدولته ويتخلى عن انتمائه لوطنه ويختار الحل الفردي وأن يعالج مشاكله من دون هؤلاء الفاشلين ودون طلب إعانة من الدولة فرأينا من ينتحر وينهي حياته بإرادته الفردية وينهي معاناته مع وضعه الصعب ورأينا من يختار الجنة الموعودة ويوهم نفسه بأن مصيره في بلدان ما وراء البحار وبالمغامرة في قوارب الموت عله يستطيع تحسين حاله ب"الحرقة " إلى عواصم الرجل الأبيض وهناك من قرر أن ينسى همومه ومشاكله ويلهي نفسه بالمخدرات فهي في الأخير تجعله يعيش في عالم آخر ليس عالمه الذي يرفضه ولكن أفضل منه وهناك من اختار طريق آخر والبحث معنى لحياته افقدته في وطنه وأوهم نفسه أن الارهاب والانتماء إلى الجماعات الجهادية هو الخيار الأسلم وأن هذه الجماعات تعطيه هوية جدية وانتماء جديدا ويحقق له وجودا يفتقده فغادر نحو الجماعات الارهابية التي تمنيه بالعيش في دولة تحترمه وتوفر له كل أمانيه. هذا واقعنا .. وهذه نخبتنا السياسية .. وهذه خياراتنا المتبعة .. وهذه سياساتنا التي انتهجناها وما أوصلتنا إليه .. طبقة سياسية ونخبة مثقفة عاجزة على إدارة مجموعة من الشباب عددها لا يفوق عدد عمال مصنع في بلد آسيوي .. طبقة سياسية لا يعول عليها في صناعة مستقبل أفضل لشعب تعداده يضاهي عدد سكان قرية في آسيا أو مدينة من مدن العالم أو عدد عمال مصنع في شركة عالمية.