جامعة الثانوي تدعو الى وقفة احتجاجية    مقتل شخص وإصابة 3 آخرين في إطلاق نار بحفل في نيويورك الأمريكية    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    سعيد يشدد على ضرورة وقوف العالم الإسلامي صفا واحدا نصرة لفلسطين    برنامج تعاون مع "الفاو"    استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    انعقاد ندوة المديرين الجهويين للنقل    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    بطولة الكرة الطائرة: الترجي الرياضي يواجه اليوم النجم الساحلي    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يتقدَم الاخرون ويتأخر العرب؟

هل ثمة قرار إستراتيجي دولي بإبقاء المنطقة العربية في ثلاجة التأخر الإجتماعي - الإقتصادي، كما التخلف السياسي؟ وإذا ما كان الامر كذلك، لماذا؟
هذا السؤال لا يبدو جديداً في الشرق الأوسط، إلا بمعنى واحد: البحث عن الجُذور الاقتصادية الحقيقية للأزمة الكُبرى الراهنة، التي حوّلت العرب إلى "الرجل المريض" الجديد في العالم، بعد أكثر من نصف قرن أو حتى قرنين، من التركيز الشديد على السياسة والفكر.
ثم إن هذا السؤال سيكون جديداً ومشروعاً أكثر، حين نقارن ما فعلت وتفعل، أمريكا والغرب في دول ومناطق أخرى، قاومتهما ثم إستسلمت لهما، كاليابان وألمانيا والصين وأمريكا اللاتينية والأوروبيتين، الشرقية والجنوب شرقية، بما فعلتا وتفعلان الآن في الشرق الأوسط العربي.
سنأتي إلى هذه المقارنة بعد قليل، لكن، قبل ذلك، تذكير أولاً بالأرقام حول أوضاع المنطقة العربية هذه الأيام ثم أخذ مصر (بصفتها أهم حليف عربي لأمريكا في المنطقة) كمنوذج لهذه الأوضاع.
الاقتصاد أولاً
التقارير المتلاحقة التي أصدرتها الأمم المتحدة حول أزمة التنمية العربية منذ عام 2003 وحتى الآن، قدّمت لوحة رقمية - تحليلية كافية لكل مَن يريد أن يرى المشهد العربي الشامل كما هو، لكن البروفسور بول سوليفان، أستاذ علم الاقتصاد في جامعة الدفاع القومي الأمريكي، أبرز الأولوية القصوى للاقتصاد على ما عَداه في التسبب بالإزمة العربية حين قال: "برغم أن العديد من القوى المولّدة للعنف واللااستقرار والغضب في العالم العربي، قد لا تكون إقتصادية بطبيعتها، إلا أن الجمود الاقتصادي خلال العقدين الأخيرين لم يساعد على تبريد السُّخونة في المنطقة. فإنحدار الدخول والأجور واللامساواة في الدخل والثروات والفرص والبطالة المقنعة والبطالة الحقيقية والفقر وأزمات الإسكان والتنوع البطيء للاقتصاديات، واستمرار انخفاض مستويات التصنيع والمستويات المرتفعة من الأمّية وأزمات نوعية التعليم والفساد الاقتصادي والقمع السياسي والتوترات الديموغرافية، كل ذلك ضخَّم المشاكل السياسية والاقتصادية".
لائحة مُذهلة في طولها؟
أجل، لكنها ليست شيئا مقارنة بالأرقام التي تعبّر عنها، والتي أوردتها مؤخراً هيئات دولية مختصة:
• هناك 240 مليون نسمة في العالم العربي، انتاجهم القومي العام يتراوح بين 504 و552 مليار دولار، وهذا مبلغ يبلغ فقط ضعفي الدّخل القومي لولاية أمريكية واحدة، هي الميسيسيبي، وحتى في الدول العربية التي تُعتبر غنية، كالسعودية، فإن دخل الفرد فيها لا يتجاوز العشرة آلاف دولار، وهذا يُعتبر تحت خط الفقر في الولايات المتحدة بالنسبة لعائلة من أربعة أفراد، أما دول الخليج الأغنى في المنطقة، فهي لا تُمثل سوى عشرة في المائة من السكان العرب.
• ما بين 600 و800 مليار دولار من الأموال العربية مُستثمرة، إما في أوروبا أو في أمريكا، ويقول هنا البروفوسور سوليفان: "تخيَّلوا ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن هذه الأموال موظّفة في العالم العربي. إن حجم هذه الاستثمارات أكبر من كل الدخل القومي العربي، مُجتمعاً. ومن بين هذه الاستثمارات، يأتي 60 مليارا منها من مصر. وفي المقابل، لا تشكّل الاستثمارات الأجنبية في الوطن العربي، سوى نسبة ضئيلة من الاستثمارات العالمية (3% فقط).
• الصادرات الصناعية العربية ضئيلة، لا تتعدّى 19 مليار دولار (في منطقة تضُم 240 مليون نسمة)، هذا في حين أن الصادرات الصناعية في إسرائيل (6 ملايين نسمة)، تبلغ 24 مليار دولار سنويا. بعض الدول، كمصر وخاصة تونس، حققت بعض الاختراقات الصناعية، لكن ليس بالمستوى الكافي.
• في معظم الدول العربية، انخفض أو تجمّد الدخل الفردي، وكذا الأمر بالنسبة للأجور التي تدهورت خلال العقدين الماضيين، في حين أن البطالة في ارتفاع: في الجزائر 30% وفي العراق (قبل الحرب) 50% وفي الضفة الغربية وغزة 35-50 %، وحتى في دول مثل السعودية، التي تستورد ملايين العمال الأجانب، نسب البطالة مرتفعة للغاية.
• برغم أن النمو السكاني إنخفض في العديد من الدول العربية، إلا أن نمو القوة العاملة لا يزال مرتفعا (2-3% سنوياً)، النمو في القوة العاملة سيستمر في العقد المقبل وسيشكل الفتية والشبان 30-40% من إجمالي السكان. وحين يدخل هؤلاء الى سوق العمل، لن يجدوا سوى البطالة طويلة الأمد، وما لم تدخل تغييرات سريعة، فإن المنطقة ستكون مُقبلة على حال من اللاإستقرار، والعنف لم يسبق له مثيل حتى في حِقبة التسعينات.
النموذج المصري
هذا عن الصورة العامة في المنطقة العربية، ماذا الآن عن النموذج المصري؟ "هبة النيل" (كما يُطلق على مصر) عطشى هذه الأيام. عشرات آلاف القرى ومئات آلاف الفلاحين لم تعد تصلهم لا مياه الشفة ولا صنابير الري. 64% من مراكز محافظة كفر الشيخ وقُراها، على سبيل المثال، محرومة من مياه الشرب ومزارعو الإسماعيلية، على سبيل المثال أيضاًُ، يهدّدون بالإضراب المفتوح، إذا لم تحل مشكلة إمدادهم بالمياه.
العاطلون عن العمل تجاوز عددهم السبعة ملايين، وهم يزدادون مليوناً كل سنة، فيما إرتفع سن الزواج لدى الشباب إلى 35 سنة، بسبب غلاء المعيشة والإرتفاع الشاهق في أسعار المساكن.
حالات الطلاق بلغت أرقاماً فلكية لسوء الأوضاع الإقتصادية ووصلت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى نحو 35% (وفق الإحصاءات الرسمية).
نقرأ للكاتب اليساري المصري بهاء الدين شعبان: "ساعد انتشار الفقر على تفاقم معدّلات الانهيار في الأوضاع المعيشية للملايين من المصريين، وتزايدت معدّلات العنف والجريمة وتعددت حالات الإنتحار بسبب الإملاق واليأس وتفاقمت الرشوة والفساد وتضاعف عدد "أطفال الشوارع" وحاصرت تلال القُمامة وأحزمة البؤس، القاهرة وبقية المدن".
ونقرأ للدكتور حسن نافعة: "الطبقة الكادحة وصلت إلى بؤس غير مسبوق، بعد أن اتسعت بشدة الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتدهورت مستويات معيشة الشرائح الدُّنيا من الطبقة الوسطى".
أما الأوضاع الصحية، فقد ورد وصفها في تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء والتنمية: 5 ملايين مصري مُصابون بفيروس التهاب الكبد الوبائي الذي يتزايد بمعدل 750 ألف إصابة كل عام، و4 ملايين مواطن مصابون بمرض السكر، و14% منهم يعانون من حساسية الصدر، وأكثر من 15 مليوناً مصابون بالأنيميا (فقر الدم)، و100 ألف يصابون سنوياً بالسرطان.
التفسيرات التي قدّمت لتحليل هذه الظواهر المقلقة، تتلون بتلَون المنطلقات الإيديولوجية لأصحابها. فاليمينيون ينحون باللائمة على الانفجار الديموغرافي (السكاني) الكبير، الذي قفز بعدد مواطني مصر من 20 مليوناً إلى 75 مليوناً خلال ثلاثة عقود، الأمر الذي شكَل ضغطاً كبيراً على الموارد المائية والبنى التحتية وموارد الدولة.
واليساريون يتَّهمون "الرأسماليين الجُدد"، المتحالفين من "الخارج" بتبديد الثروة المائية في فِلَلهم الفارغة وعِزبهم الشاسعة وملاعب الغولف والمشاريع الفاشلة مثل "توشكي" والقرى السياحية المخصصة للأغنياء، وأيضاً بتدمير القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية لصالح قطاع الخدمات والسياحة، الذي لا يطال سوى نسبة ضئيلة من السكان، مما خلق الفجوة الضخمة الراهنة بين الإنفجار السكاني وبين الموارد الإقتصادية.
مقارنات
كِلا الطرفين يُمكن أن يدّعي الإمساك بناصية الحقيقة، لكن ثمة أمر واحد لا يمكن أن يختلف عليه الطرفان: التَّدهور في أوضاع مصر تَم في حقبة السلام مع إسرائيل وفي مرحلة التحالف مع أمريكا، وهو حدث تمَّ بإشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وباقي مؤسسات وهيئات الإقتصاد الرأسمالي العالمي، مثل هذا التطور (كما ذكرنا في البداية)، لم يحدث في الدول الأخرى التي قاومت أمريكا ثم استسلمت لها.
فاليابان، التي دمَّرتها القنابل الذرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، سمح لها الإحتلال الأمريكي بانطلاقة صناعية - تكنولوجية جعلتها في خلال عقود قليلة ثاني أكبر إقتصاد في العالم.
الأمر نفسه حدث في ألمانيا المحتلَّة، التي حوَلها مشروع مارشال الأمريكي إلى القلعة الاقتصادية - الصناعية الأولى في أوروبا أيضاً خلال عقود قليلة.
وفي حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، طرأ تحوّلان كبيران بإشراف القوة العظمى الأمريكية، التي أصبحت وحيدة في العالم:
الأول، السماح للصِّين بالاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الدولي بوصفها "المصنع الجديد" (لا "الكباريه" السياحي اللاانتاجي) لآسيا والعالم، وهذه الخطوة لم تكن لتتِم، لولا تدفق الإستثمارات الهائلة على القطاعات الإنتاجية في بلاد الهان من بلاد اليابانيين والأمريكيين والأوروبيين أو بكلمات أوضح من الثالوث الرأسمالي الذي يحكم العالم.
هذا التطور حدث برغم وجود نِقاط توتُّر ساخنة بين أمريكا والصين في مضائق تايوان وفي الصراع على النفوذ بينهما في شرق وجنوب شرق آسيا وفي طبيعة النظام الرأسمالي غير المكتمل في الصين.
التحوّل الثاني أطل برأسه في أوروبا الشرقية والجنوب شرقية، حين إنصبت بعد عام 1990 مئات مليارات الدولارات ثم اليورو من الاستثمارات الغربية على القطاعات الإنتاجية في هذه المناطق، مما مكَن بعضها من تحقيق إنطلاقة إقتصادية جديدة.
صندوق النقد الدولي قدَر بأنه ضخ إلى المنطقة في الفترة بين 1990 و2000 أكثر من 120 مليار دولار، في حين أن هيئات دعم الديمقراطية في الولايات المتحدة وأوروبا، كانت تنفق 160 مليون دولار سنوياً على كل من مشاريع "تحرير" الاقتصاد والسياسة.
أمريكا اللاتينية، لِوهلة، قد تبدو إستثناءً في هذه المسيرة، وبالتالي، أكثر شبهاً بالمنطقة العربية، فهذه القارة المنكوبة لا تزال منكوبة: 40% من الأمريكيين اللاتينيين يعيشون تحت خط الفقر، اللامساواة الطبقية هي الأسوأ في العالم، الخُمس الأدنى من سكان القارة يتلقَّون 4% من الدخل القومي، فيما الخُمس الأعلى يحظى بأكثر من 55% من الدخل.
ووفق دراسة حديثة لبنك التنمية الأمريكي اللاتيني، تتكسَّر هذه الفروقات الطبَقية على أسُس إثنية وجنسية، حيث الأكثر فقراً هم الهنود الحمر الأصليون (ربع سكان القارة) والنساء. "الحال من بعضه" إذن بين القارتين، اللاتينية والعربية؟
كلا. هناك فرق هائل: الأولى "سمح" لها بإستيلاد نخب وطنية وقومية جديدة نجحت في تطوير أفكارها وبرامجها بما يتوافق مع العولمة والنظام العالمي الجديد الذي برز بعد انتهاء الحرب الباردة، فيما الثانية لا تزال عاقِراً ولا يُسمح لها بأن تستولد (حين تستولد)، سِوى حركات تطرّف أصولي تُحارب التأخر بمزيد من التأخُّر وتقاتل المستقبل بسَيف الماضي وتواجه الفقر والبطالة بالعُنف الإنتحاري.
الوطنيون اللاتينيون أرسَوا إستراتيجيتهم الناجحة الجديدة التي أوصلتهم إلى الحُكم في دزينة دول، على الآتي:
1- أولوية النهضة الإقتصادية على السياسة. هذا الانقلاب في الأولويات من الثورات الأديولوجية المسلحة التي شهدتها القارة اللاتينية طيلة قرن كامل إلى الثورات الطبقية السلمية، أسفر عن نجاح كبير للحكومات اليسارية وعن صعود كاسح للاقتصادات، كالبرازيل، إلى مصاف القِوى الكبرى الاقتصادية.
2- التركيز على إحياء المجتمع المدني بدل العمل على تدمير المجتمع السياسي، وهذا قلَب مفاهيم العمل السياسي في القارة رأساً على عقِب: من تنظيم النُّخب من فوق إلى تأطير القواعد من تحت، من التراكيب الحزبية الضيقة إلى التيارات الشعبية الواسعة. والحصيلة: بروز يسار جماهيري محصَّن ضدّ المؤامرات والانقلابات الاجتماعية بقوة مجتمعات مدنية حرّة ودينامية.
3- وأخيرا، إحالة عَداء اليسار الطفولي للديمقراطية إلى رفوف التاريخ ودمج هذه الأخيرة بكل برامج عمل النهوض القومي والطبقي.
أي إدماج؟
كل هذه التطوّرات الكُبرى التي كانت تشهدها هذه المناطق – المحاور الرئيسية في العالم، تندرِج تحت مسمَّى واحد: عملية الإدماج في النظام الرأسمالي العالمي. وكل الدول التي طالتها عملية الإدماج هذه، والتي كانت في السابق معادية لأمريكا، أطلق عليها وصف "بلدان المرحلة الانتقالية".
وحدها الدّول العربية، لا تزال تُراوح مكانها ولا تنتقل إلى أي مكان، سوى نحو المزيد من التأخر والفقر والتخلف.
مصر، التي بنت إباَن حقبة استقلالها الناصرية (1952-1967) قاعدة صناعية – زراعية - تعليمية مهمّة، اعتقدت أن سلامها مع إسرائيل سيفتح أمامها أبواب الجنَات الإستثمارية الرأسمالية. فإذا بها بعد 38 عاماً من إنتقالها من المعسكر السوفييتي إلى المعسكر الأمريكي، وبعد 28 عاماً من السلام مع إسرائيل، تكاد تنفجِر من سوء أحوالها الاقتصادية والمعيشية، كما أسلفنا.
وفي المملكة المغربية، التي تُعتبر أقدم حليف تاريخي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا تزال التنمية الإقتصادية الحقيقية علماً وخبرا، ومعدلات الفقر فيها تتجاوز69%.
ودول شبه الجزيرة العربية، برغم غِناها النفطي، أصبحت مجرد محطَّات وقود استهلاكية مهددة، وهويتها العربية مهدّدة بالاجتياح، ديموغرافياً، على يد ملايين العمال الآسيوييين الذين يُديرون عجلة إقتصادها.
ودول الهلال الخصيب العربي (سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين) ممنوعة من الصرف في مجال التنمية والإنتاج أو في أي مجال يتعلق بالتفوّق التكنولوجي الإسرائيلي.
إضافة، فكل المنطقة العربية تُعتبر ساحة حرب في إطار ما بات يُعرف ب "إعادة تشكيل النظام الشرق أوسطي الجديد" والتي تتضمَّن تفكيك وتركيب العديد من الدول على أسس طائفية ومذهبية وقبلية.
هل يعني ذلك أن ثمَّة توجها لإبقاء المنطقة العربية خارج أبواب النظام الرأسمالي العالمي؟ كلا، البتة، الإدماج مطلوب وحتمي، وهو سيتم بوتائر متسارعة، لكن السؤال هو: أي إدماج؟
هنا قد تتَّضح تماماً معالم مشاريع "الشرق الاوسط الجديد" (الإسرائيلي البيريزي)، و"الشرق الأوسط الأوسع (الأمريكي البوشي) و"الإتحاد المتوسطي" (الأوروبي الساركوزي)، فهذه كلها تدعو لأن يتِم الإدماج الرأسمالي على الأسس الآتية:
تحويل العرب إلى مجرّد مستهلكين ومنع أي دولة منهم من تحقيق نهضة إنتاجية - تكنولوجية ذات معنى.
تقسيم العمل في المنطقة وِفق الاختصاصات التي حدّدها شمعون بيريز: التكنولوجيا والصناعة في "المركز الإسرائيلي، والرساميل والعمال في "الأطراف العربية".
دفع العديد من الدول العربية إلى "التخصص" في القطاعات غير الإنتاجية، كالسياحة والخدمات غير التكنولوجية، وإبقاء العديد منها في طور الزراعات غير الحديثة.
هذه التوجهات، التي تعني في العمق "أسرلة" الشرق الأوسط، أي إخضاعه للسيطرة الإسرائيلية، قد يبدو مبالغاً به في أحسن الأحوال أو نسخة أخرى من "نظرية المؤامرة" في أسوئها.
فالدولة العبرية في النهاية، كِيان صغير لا يتجاوز تِعداد سكانه اليهود، الأربعة ملايين، وبالتالي، فهو غير قادر على بناء أو إدارة مثل هذه الإمبراطورية الشاسعة.
بيد أن التحفُّظات تتبدَّد حين نضع في الميزان الوزن الإقتصادي والمالي الكبير لليهودية العالمية، خاصة منها جناح المصرفيين العالميين الذين يمسكون بمُعظم زمام الاقتصاد العالمي المتعولم.
حينذاك، التلاحم بين القُدرات الإسرائيلية المحدُودة والإمكانيات اليهودية العالمية غير المحدودة، (والتي تتحكم بدورها في القرار الشرق أوسطي الأمريكي)، سيتكفل في سد الثغرات المحتملة في صرح "الشرق الأوسط الجديد".
هل أجبنا على سؤالنا الأولي حول إحتمال وجود قرار إستراتيجي دولي بإبقاء المنطقة العربية في ثلاجة التأخر الاجتماعي - الاقتصادي؟ وهل هذه الإجابة مقنعة؟
إذا لم يكن الأمر كذلك، قد يكون كافياً أن نتلفت قليلاُ إلى الخريطة العربية، ثم نطرح السؤال: لماذا كل العالم في "مرحلة انتقالية"، إلا العرب؟ ولمصلحة من يحدُث ذلك؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.