القصرين: طعن محامي في محكمة والاحتفاظ بالمعتدي    كيفاش تتحصل على منحة العائلات المعوزة ؟    بورصة تونس أول شركة تتحصل على شهادة الأيزو 22301    وكالة التحكم في الطاقة: نحتاج استثمارات ب 600 مليون دينار لتخفيض الاستهلاك الطاقي في البلديات    بن عروس: إغلاق محل لبيع منتجات لحوم الخيول    وزارة الفلاحة تؤكّد أهميّة استعمال التقنيّات الرقميّة لإرساء تصرّف ذكي ومستدام في المياه    تطاوين: الشرطة البلدية تُنقذ طفلين من الموت    أبطال أوروبا: تشكيلة بايرن ميونيخ في مواجهة ريال مدريد    غياب الحفناوي عن أولمبياد باريس: الناطقة الرسمية باسم جامعة السباحة توضّح    كأس الكاف :الزمالك يحتج على تعيين حكمين تونسيين في النهائي ضد بركان    باب بحر: القبض على متورّط في عمليات سرقة    بين المنستير وصفاقس: الاحتفاظ بشخصين والقبض على منظمي "حرقة" ووسطاء    معهد باستور: تسجيل ما بين 4 آلاف و5 آلاف إصابة بمرض الليشمانيا سنوياّ في تونس    90 % من الالتهابات الفيروسية لدى الأطفال لاتحتاج إلى مضادات حيوية    سليانة: تسجيل جملة من الاخلالات بكافة مراكز التجميع بالجهة    نادي محيط قرقنة الترجي الرياضي: التشكيلة الأساسية للفريقين في مواجهة اليوم    منزل تميم: تفكيك شبكة مختصة في سرقة المواشي    بطاحات جزيرة جربة تاستأنف نشاطها بعد توقف الليلة الماضية    نجيب الدزيري لاسامة محمد " انتي قواد للقروي والزنايدي يحب العكري" وبسيس يقطع البث    البطولة العربية لالعاب القوى للشباب - التونسي ريان الشارني يتوج بذهبية سباق 10 الاف متر مشي    التونسي أيمن الصفاقسي يحرز سادس أهدافه في البطولة الكويتية    السباح التونسي احمد ايوب الحفناوي يغيب عن اولمبياد باريس    الأعلى انتاجا.. إطلاق أول محطة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية    سيارة Chery Arrizo 5 الجديدة تصل إلى تونس    إنقاذ فلاّح جرفه وادي الحطب بفوسانة..    انطلاق اختبارات 'البكالوريا البيضاء' بداية من اليوم الى غاية 15 ماي 2024    حجز كمية مخدّرات كانت ستُروّج بالمدارس والمعاهد بحي التضامن..    عاجل : قضية ضد صحفية و نقيب الموسقيين ماهر الهمامي    أريانة :خرجة الفراشية القلعية يوم 10 ماي الجاري    قصر العبدلية ينظم الدورة الثانية لتظاهرة "معلم... وأطفال" يومي 11 و12 ماي بقصر السعادة بالمرسى    دورة جديدة لمهرجان الطفولة بجرجيس تحتفي بالتراث    هام/ تسميات جديدة في وزارة التجهيز..    وزيرة الإقتصاد في مهمة ترويجية " لمنتدى تونس للإستثمار"    عاجل/يصعب إيقافها: سلالة جديدة من كورونا تثير القلق..    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 8640 فلسطينيا بالضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الماضي..    جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين بهذه الجهة..    اتحاد الفلاحة: ''علّوش'' العيد تجاوز المليون منذ سنوات    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 8 ماي 2024    قبل لقاء الأهلي والترجي: السلطات المصرية تعلن الترفيع في عدد الجماهير    عاجل/ فضيحة تطيح بمسؤولة بأحد البرامج في قناة الحوار التونسي..    الاقتصاد في العالم    جريمة شنيعة: يطعن خطيبته حتى الموت ثم ينتحر..!!    بأسعار تفاضلية: معرض للمواد الغذائية بالعاصمة    تراجع عدد أضاحي العيد ب13 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية    هزة أرضية بقوة 4.7 درجات تضرب هذه المنطقة..    "دور المسرح في مواجهة العنف" ضمن حوارات ثقافية يوم السبت 11 ماي    جيش الاحتلال يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جنوب لبنان    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    رئيس جمعية مالوف تونس بباريس أحمد رضا عباس ل«الشروق» أقصونا من المهرجانات التونسية ومحرومون من دار تونس بباريس    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعب التونسي في نصرة فلسطين1947-1948
نشر في السياسية يوم 26 - 05 - 2009

الشعب التونسي في نصرة فلسطين1947-1948
د.عميرة عليّة الصغيّر
المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية
[email protected]
عاش الشعب التونسي سنتي 1947-1948 على وقع أحداث فلسطين لما للقضية الفلسطينية من مكانة في وجدان هذا الشعب العربي المسلم. وفي الواقع إنّ الاهتمام بفلسطين وبالخطر الصهيوني عليها كان ثابتة في اهتمامات النخبة التونسية بالخصُوص منذ بداية القرن الماضي مرورا بوعد بلفور (1917) والثورة الفلسطينية (1936-1939) وحتى الزّمن الحاضر. في هذه الورقة المعنونة "الشعب التونسي في نصرة فلسطين1947-1948" سوف نتوقف عند ثالث نقاط
التعبئة السياسية والروحية لفائدة فلسطين.
التحركات الشعبية لنصرة فلسطين .
التطوع للدفاع عن فلسطين.

التّعبئة السياسية والروحية لفائدة فلسطين.
قبل حتى قرار التقسيم لفلسطين الصادر عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 كانت النخبة المثقفة في تونس تتابع تطورات الأحداث في فلسطين وتستنكر اعتداءات العصابات الصهيونية على العرب وتندّد بنشاطات الصّهاينة المساندين لهم في تونس لكن التقسيم وما تلاه من تحركات في العالم العربي ونداءات " الهيئة العربيّة العليا" و " الجامعة العربيّة" لنصرة فلسطين أدخلت البلاد التونسية فعلا من شمالها إلى جنوبها بمدنها وأريافها في جوّ من التحمّس والحميّة الدينية والقومية والتنادي لنجدة فلسطين والقدس لما لهما من دلالة رُوحيّة ودينية عند شعب متدّين لم تزده الاعتداءات الاستعمارية إلا تشبثا بهويته العربية الإسلامية وبمقدساته التي في طليعتها القدس.
لذا كانت التّعبئة السيّاسية والنفسيّة كجزء من التعبير عن الذات وإرادة التحرّر ونجدة أخوة في الإسلام والعروبة. وفي الواقع إنّ كانت هذه التعبئة والمساندة لفائدة فلسطين من كل الوطنيّين في الدستورين الجديد وخاصة القديم (ما عدى الشيوعيّين الذين كانوا في موقف تبعي للحزب الشيوعي السوفياتي ودولة ستالين التي وافقت على التقسيم) كذلك وأساسا من دوائر جامع الزيتونة من مدّرسين وطلبة ومن مختلف الجمعيات الثقافية وخاصة " جمعية الشّبان المسلمين" ورئيسها محمّد الصالح النّيفر والجمعيّات الأخرى التي بعثت للغرض وهي" لجنة إغاثة فلسطين الشهيدة" ( رئيسها أحمد بن ميلاد) و"لجنة الدفاع عن فلسطين" (تكونت في 18 أوت 1947 ويرأسها محمّد الصّادق بسيّس) و" اللجنة العربيّة لهيئة المدّرسين" (2 ديسمبر1947) برئاسة الشيخ الشاذلي بالقاضي.
وقد اعتمدت حملة مساندة فلسطين على كل الوسائل المتاحة من الاجتماعات والتجمّعات الحاشدة في الساحات والجوامع في العاصمة وفي داخل البلاد إلى النّداءات على المنابر لنصرة الفلسطينّيين وهزم الصّهاينة وأعداء الإسلام والكتابة في الصحف وتوزيع المناشير وبيع الصّور الخ.
ولنعطي صورة أكثر دقّة على هذه التّحركات نستحضر هنا وقائع التجّمع الكبير الذي انتظم بالعاصمة يوم 4 ديسمبر 1947 بجامع صاحب الطّابع وساحته والذي جمع أكثر من ثلاثة آلاف شخص خاصة من طلبة الزيتونة ومدرسيها ومن التّجار والموظفين وأعضاء الجمعيّات الثقافية والمناضلين الوطنيين وبعض النسوة وكان تحت شعار" من أجل فلسطين العربية " وترأسه الشيخ الفاضل بن عاشور وحضره محمّد الصالح مراد شيخ الإسلام الحنفي والقيادي في اتحاد الشغل الصحبي فرحات وعلاّلة بلهوان عن الحزب الدّستوري الجديد والحبيب شلبي عن الحزب الدستوري القديم والصّادق بسيّس وقد كان الافتتاح بخطاب المدّرس بالزيتونة الشيخ محمّد الشاذلي بالقاضي العائد لتوّه من مكة والذي مرّ بفلسطين وقابل مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني وقد ندّد الشيخ بالقاضي بقرار التقسيم ودور اليهود فيه و بالأمم المتحدّة "التي كانت في خدمتهم" وحمّل أوروبا مسؤولية الوضع المخزي للعرب وللفلسطينيين وأعلن"إنّ واجب المسلمين الآن هو التوحد من أجل إعانة إخوانهم في الأراضي المقدسة لأنهم قادرون على جمع المال أكثر مما يفعله الصهاينة ومن يدعمهم وخاصة انجلترا وما فعلته منذ وعد بلفور وقد حذّر الشيخ بالقاضي من أنّ الخطر الصهيوني لن يقف عند فلسطين فخطره يهدّد مكّة والسّعودية والأرض العربية ليختم بنداء لجمع التبرّعات وتجنيد المتطوعين لإنقاذ فلسطين لأنّ المسلم يحرّم عليه دينه أن يترك اليهود يعبثون بالأراضي المقدّسة. أمّا القيادي الدستوري علي بلهوان فكان تدخله في نفس الاتجاه لكنّه كان أكثر تسيّسا منبها للخطر الاستعماري الذي يخيم بكلكله على شمال إفريقيا ويهدّد فلسطين وطالب بالتنادي لإعانة "إخواننا الفلسطينيين "لأنهم عندما ينتصرون في فلسطين ننتصر في تونس" وكانت تدخلات الشخصيات اللاّحقة في نفس التوجه (الحبيب شلبي، الفاضل بن عاشور، محمّد بوشربيّة، محمّد الشاذلي النّيفر، عبد الرحمان الخليفي وكلهم من شيوخ الزيتونة). وقد انتهى التجمع بالنداء للوحدة وجمع التبرّعات وتجنيد المتطوّعين وتحذير اليهود في تونس من مغبّة دعم الصهاينة في فلسطين والدعوة لمقاطعتهم.
وكان التجمع الذي انعقد من الغد يوم 5 ديسمبر 1947 هذه المرّة بجامع الزيتونة أضخم إذ جمع 6 آلاف شخص ليستمعوا لنفس الخطباء ونفس الدعوات للتضامن وحضره هذه المرّة الأمين العام للحزب الحرّ الدستوري الجديد صالح بن يوسف الذي ضمّ صوته للنّداء لنصرة فلسطين لكنّه حذّر من السقوط في فخ العداء لليهود في تونس أو مقاطعتهم لأن ذلك حسب رأيه يضّر بالقضية الوطنية و"لكل حادث حديث وعندما يخون يهود تونس بلدهم نتصرّف"
وكانت الصّحافة الوطنيّة تنشر أخبار فلسطين وحيثياتها وخاصة تغطي التحرّكات وتكرّر النداءات لإغاثة العرب لها وقد برز من جملة حاملي لواء فلسطين الشيخ محمّد الصّادق بسيس (1914-1978) هذا الوطني الإسلامي الدستوري الناشط والذي تفرّد منذ الثلاثينات بمواقفه الداعمة للقضيّة الفلسطينية ولاقى السجن من أجلها حتى إنّه كان يُلقّب منذ الثلاثينات "بالشيخ الفلسطيني" ونورد هنا فقرة من مقال له كأنموذج على خطاب هذا العلم في تاريخ الوقوف إلى جانب فلسطين إذ كتب في جريدة الزّهرة ليوم 24 أكتوبر 1947 تحت عنوان" ليصرخ شباب تونس لبيك يا فلسطين، يقول:" إنّ العالم العربي بموقفه الحاسم بجانب فلسطين، مؤيّدا، ناصرا، مقدّما بالنفس والمال والأقلام والمهج والأرواح سيقطع دابر الصّهيونيّة ويطاردها في كل مكان ويدخل معها في دور المحنة الأخيرة، دور الحياة أو الموت، إنّ تونس العربية المسلمة تصرخ أمام النّاس جميعا بأنّها ستؤدي واجبها في الدّفاع عن عروبة فلسطين كاملا غير منقوص فشبابها على أكمل استعداد للمشاركة في الدّفاع وتنفيذ أوامر القائد الأعلى لجيش التحرير وجيش الإنقاذ، محمّد أمين الحسيني" وقد سببت حركيّة هذا الشيخ لفائدة فلسطين وخطابه المعادي للاستعمار والصّهيونية انزعاجا كبيرا للسلّط الاستعمارية في تونس حيث عمدت إلى إيقافه بتهمة جمع التبرعات في الطريق العام دون ترخيص وأقرت مثوله أمام المحكمة في 25 جوان 1948 وقد أثار ذاك القرار موجة من التنديد والمساندة لمحمّد الصادق بسيس من تونس إلى فلسطين حيث تدخّل الشيخ الأمين الحسيني لفائدته لدى الحكومة الفرنسية فتراجعت السّلط عن قرار محاكمته
هذه المواقف والدعاية المختلفة من شيوخ الزيتونة وطلبتها ومن الوطنيّين في مختلف التنظيمات والجمعيات والصّحافة أثمرت دعما ماديّا ومعنويّا محسوسا.
التحركات الشعبية لنصرة فلسطين.
تزامنا مع موجة المساندة لفلسطين والتنديد بقرار التقسيم من العالم العربي والإسلامي جدّت في تونس تحرّكات عدّة مماثلة ما فتئت تتصاعد في نسقها مع تحوّل المصادمات بين العرب والصّهاينة إلى حرب فعليّة وإعلان تأسيس دولة إسرائيل في 14 ماي 1948 و" ما إن تمّ الإعلان عن قرار التقسيم الأممي في 29 نوفمبر 1947 حتى دخل جامع الزيتونة وفروعه في إضراب عام وتمت الدعوة كذلك إلى غلق المحلاّت بالعاصمة والمدن التونسية الكبرى. فقد بدأ إضراب طلبة جامع الزيتونة يوم 12 أكتوبر 1947 وتواصل إلى حدود 4 ديسمبر 1947 متبوعا بإضراب التّجار التونسيين. أما بداخل البلاد فقد بدأ الإضراب مع فرع جامع الزيتونة بصفاقس يوم 2 ديسمبر 1947 بأمر من رئيسة الطّاهر النيفر كما أضرب فرع جامع الزيتونة بالقيروان بداية من 3 ديسمبر وفروع سوسة ومساكن بداية من 4 ديسمبر 1947" وقد كان إضراب التّجار بغلق محلاّتهم كاملا بتونس العاصمة وقابس وبصورة أقل بالقيروان وسوسة وببقية البلاد
إلى جانب الإضراب تنادت الجمعيات الدّاعمة لفلسطين والشباب الزيتوني والكشفي إلى تطبيق أمر مقاطعة التجّار اليهود ومحلاّتهم وفرضه أحيانا بالقوة على التونسيين من المسلمين وذاك لتمثّل مناصري فلسطين الصّراع على إنّه صراع بين اليهود والمسلمين وإنّ تعاطف يهود تونس مع يهود فلسطين لهو حجة على ذلك. وبالفعل كنت الحركة الصّهيونيّة نشطة في تونس في تلك الفترة حيث تكثّفت الدّعاية لدعم المشروع الصّهيوني يقودها"الحزب الصّهيونيي المُراجع الموحّد"
(Parti sioniste révisionniste unifié) بزعامة أندري شمّامة الذي تمكّن لشهر ماي1947 لوحده ولتونس العاصمة فحسب من جمع أكثر من مليون فرنك حوّلها " الصندوق القومي اليهودي" لفلسطين7 وكان الأكثر تحرّكا وتشدّدا بالبلاد فرع منظمة أرغون الصهيونية. لذا تزامنت مقاطعة التّجار اليهود بإضرابات طلبة الزيتونة ومظاهراتهم وكانت مقاطعتهم شاملة في كامل أنحاء البلاد تقريبا، مقاطعة دكاكين ومتاجر اليهود وكذلك قاعات السينما وكل مؤسساتهم كل ذلك كانت تصحبه مناوشات بين الطّرفين وعداء متبادل يغذّيه واقع البؤس والجوع العام المستشري زمنذاك وصورة اليهودي المرابي بين الواقع والتضخيم.
ولم تكن نصرة فلسطين بالتّحمس والخطاب فحسب بل تداعت كل القوى الوطنية والاجتماعية لجمع التّبرعات لفائدة القضية وذلك رغم الظروف الصّعبة القائمة زمنذاك من آثار الحرب وجرّاء سنوات الجفاف والآفات الطبيعية المتتالية حيث كانت تضرب البلاد المجاعة في عديد المناطق واستشراء الغلاء والسّوق السّوداء والبطالة وهجرة الجياع إلى المدن [6]8 وقد اضطلع بجمع التبرعات كل من لجنة الدّفاع عن فلسطين برئاسة محمّد الصّادق بسيّس ولجنّة إغاثة فلسطين التي يقودها الدكتور أحمد بن ميلاد وكذلك الحزبين الدستوريين والإتحاد العام التونسي للشغل بفروعه والجمعيات الشبابيّة وقد تميّز مدرّسو الزيتونة أكثر من غيرهم في هذا النّشاط التضامني شأن الشيوخ محمّد الصّادق بسيّس والشاذلي بالقاضي والطيب التليلي مما عرّضهم للتبعات . وكانت التبّرعات تجمع مالا و مصوغا أو عن طريق بيع بعض الصّور الآتية من ساحة القتال في فلسطين لمقاومين أو متطوّعين[7]9 وقد بلغت قيمة التبرّعات التي جمعها التونسيون لفائدة فلسطين حتى أوّل أكتوبر 1948 ما يزيد عن 7 ملايين فرنك أُرسلت عن طريق مكتب المغرب العربي أو مباشرة[8]10.
لكن أكبر فيض للتضامن مع شعب فلسطين كان هبّة المئات لافتدائها بدمائهم بالتطوع للقتال على أرضها.

التطوع للدّفاع عن فلسطين.
في الواقع إننا لا نمتلك المعلومات الكثيرة عن حملة التطوّع لفلسطين في 1947-1948 ما عدى تقارير الإقامة العامة وبعض الشذرات في صحف العصر أو شهادات لمقاومين وحتى "وداديّة محاربي فلسطين" التي تأسست في 12 فيفري 1956 يبدو أنها لم تعمّر طويلا ولا نعرف عن أرشيفها شيئا11.
ولنبدأ بفقرات من مراسلة لأحد الشباب الوطنيين التونسيين من طرابلس إلى أحد مسؤولي حملة التطوّع بتونس وهي تعود لشهر ماي 1948 وتعطي صورة للظروف المادية والنّفسيّة للمتطوّعين في طريقهم إلى الأرض المقدسة12:" على طول طريقي نحو طرابلس كان يعترضني المئات من التونسيين متوجهين لفلسطين للتطوع في صفوف المجاهدين العرب.كل هؤلاء المتطوعين كانوا في حالة ماديّة يرثى لها ورغم ذلك كان يحدوهم شعور وطني حاد بالقضيّة الفلسطينيّة وكلّهم يعتقدون راسخا إنّ المعركة من أجل فلسطين هي الخطوة الأولى لتحرير إفريقيا الشمالية كاملة. لقد شقوا عشرات الكيلومترات على الأرجل لبلوغ طرابلس وتعرّضوا لكلّ المخاطر عند اجتيازهم الحدود والعديد منهم تم إيقافهم وتعرّضوا للإهانات والتّعذيب. لقد تحدّثت مع الكثير من هؤلاء المتطوّعين وحكوا لي عن مشاق مغامرة الطريق خاصّة وأن الكثير منهم كانوا كبار جدًّا أو صغارا جدّا، لحمل السّلاح. يجب تفادي هذه الأوضاع خاصة وإنّ طرابلس في حالة اقتصادية صعبة نتيجة الجفاف وانتشار المجاعة ويصعب عليها تحّمل هذه الأفواج من المتطوّعين ولو لأسبوع (...) ورغم ذلك فإنّ الإخوان اللّيبيّين وخاصة زعماء الأحزاب الوطنية يقدّمون كل ما يقدرون من العون13 "

كيف يتطوّع المجاهدون وكيف يصلون فلسطين ومن يُوصلهم وكم عددهم ومن هم؟
كانت هناك في العاصمة وفي المدن الداخلية مكاتب تستقبل المتطوعين وتحوّلهم حتى الحدود مع طرابلس في الجنوب لكن يبدو أنّ الكثيرين هبّوا فرادى أو في مجموعات صغيرة لعبور الحدود دون وعي بالصعوبات التي تعترضهم وقلوبهم تهفوا للقدس والاستشهاد في سبيلها. على كل لنا تقرير ضافي من المقيم العام الفرنسي بتاريخ 22 جويلية 194814يفيد أنّه حتى 20 جويلية 1948 أحصت المصالح الأمنية عدد 2676 تونسيّا متطوّعًا إمّا وقع حجزهم في الحدود مع طرابلس أو وقع إيقافهم قبل اجتيازها. لكن كم وصل مصر وكم وصل فلسطين؟ لا ندري بالضّبط كلّ ما نعلمه والذي يفيد به أيضا تقرير آخر من المقيم العام هذه المرّة بتاريخ 17 ماي 1949، أي بعد إعلان تأسيس دولة إسرائيل وإيقاف الحرب على جلّ الجبهات تقريبا، كان هناك 188 تونسيّا لا يزال عالقا في طرابلس وتعمل السلط على ترحيلهم إلى تونس15 لكن لو أضفنا العشرات الذين نجحوا في الوصول إلى ساحة المعارك بفلسطين نقدّر عدد المتطوّعين الجملي بثلاثة آلاف تونسي وهو رقم معتبر مقارنة مثلا بعدد متطوّعي البلدان المغربيّة الأخرى إذ مثلا لم يقع إحصاء حتى جويلية 1948 إلاّ 110 جزائريا و25 مغربيّا كانوا قادمين للتطوّع لفلسطين16 مرورا بتونس وطبعا يمكن أن يكون وصل آخرون فلسطين من أبواب أخرى ولا نعلم عدد المتطوّعين من ليبيا.
وفي دراسة للتوزيع الجغرافي من حيث أصول المتطوّعين يفيد تقرير 22 جويلية الآنف الذّكر إن العدد الأكبر كان من المراقبة المدنيّة لتونس العاصمة (657 متطوّعا) تليها صفاقس مع ظهيرها ب276 متطوّعا ثم سوسة والسّاحل ب256 متطوّعا وأخيرا قابس وبقية الجنوب ب 222 متطوّعا مع ضعف واضح لمشاركة سكان الوسط التونسي وشماله17ربّما لأنّ المجاعة كانت تضرب آنذاك (1947-1948) جهة السّباسب ولأنّ كلكل المعمّرين كان كبيرا على شمال تونس وخاصة الغربي منه.
وككل الذيّن وهبُوا حياتهم للجهاد في فلسطين ، وفيما بعد لتحرير تونس، كان المتطوّعون من الفقراء والمعدمين في غالبيتهم ( حرفيّين، عمّال، فلاّحين فقراء، عاطلين، شباب...) وفي العيّنة الذي وقع فرزها من مصالح الإقامة العامة وفي ذات التقرير لشهر جوان تبيّن إنّه كان من بين المتطوّعين 73 من قدماء المحاربين أي 3% من المجموع أمّا المثقّفون فكانوا قلّة لا تتجاوز نسبتهم 5% وهم أساسًا من طلبة الزيتونة أو قدمائها إن كانوا في الجامع الأكبر في العاصمة أو من فروعه بالداخل.
" وكان المتطوّعون التّونسيّون الذين يجتازون الحدود التونسية اللّيبية ينقلون عبر شاحنات على ملك عائلة السّنوسي إلى مدينة بنغازي ويقوم قنصل مصر ببنغازي بتحويل المتطوّعين إلى مدينة مرسى مطروح على مقربة من الحدود المصرية اللّيبيّة بعد تعرّضهم لفحوص طبيّة دقيقة وتسليمهم تصاريح في دخول التراب المصري، وعند بلوغهم ثكنة مرسى مطروح يقع إعطاؤهم زيّا عسكريّا ثم يقسّمون إلى كتائب ويشرع في تدريبهم على استعمال الرشاشات والبنادق ورمي القنابل فضلا عن التمرينات الرياضيّة المكثفة، كما يحصل المتطوّعون على تربية سياسية واجتماعيّة ودينيّة معتمدة أساسا على مبدإ القومية العربيّة"18 لكن هذه المعاملة لم تكن من نصيب كل المتطوعين لأنّ الكثير منهم حُشروا في معتقل بمرسى مطروح وعرّضوا للجوع وللإهانة مما أدّى لتمرّدهم ومهاجمة مخازن المؤونة فتمّ القتل العديد منهم برصاص حراسهم المصريّين19وعاد الأحياء بمرارة في القلب من ظلم الإخوة (المصريون) وقسوة الأنجليز(عند الترحيل) أمّا الذين شاركوا فعليّا في المعارك على أرضي فلسطين فهم في تقديرنا بعض العشرات منهم من حارب في صفّ المتطوّعين السّوريّين أو ضمن متطوّعي مصر أو لبنان. وتأكيدا لذلك يذكر المقيم العام في تقريره ل 15 جويلية 1948 20 أنّ الفرقة الأولى التونسية الطرابلسيّة تمكنت فعلا من بلوغ بيت لحم ودخلت في معارك خلال النّصف الأوّل من شهر جوان مع القوّات الصّهيونيّة واستشهد من التّونسيّين 11 متطوّعا كما تذكر المصادر أنّ آخرين سقطوا في ساحات الشرف على أرض فلسطين منهم علي بن صالح التونسي ( استشهد بيافا في 28 أفريل 1948) وعبد الحميد الحاج سعيد وبلقاسم عبد القادر ومحمّد التّونسي وثلاثتهم استشهدوا في ماي 1948 جنوب القدس أمّا أحمد إدريس فقد استشهد قرب مستعمرة راحات راحيل يوم 21 أكتوبر 1948 21 ومن المتطوّعين المعروفين والذين شاركوا في المعارك الضابطين المتكوّنين بسوريا عزالدّين عزّوز وعمر البنبلي وهذا الأخير تمّ إعدامه في محاولة الانقلاب على بورقيبة في أواخر 1962 كذلك قائد المقاومة المسلحة في تونس سنوات 1952-1954 الأزهر الشرايطي22 والمتطوعين في كمندوس فرحات حشّاد (12-13-14 ديسمبر 1952 بجبل الرّهاش) حسن بن عتيق جبو وعلي بن مسعود والحاج سوداني من مجموعة القائد الساسي لسود وكذلك علي بن اسماعيل (الهلالي) سائق الزعيم صالح بن يوسف الذي وقع اغتياله في 22 نوفمبر 1955 وغيرهم كثيرين.

خاتمة:
هذه الورقة هي إطلالة فقط على زحم العطاء الذي أثبته التونسيّون كعرب ومسلمين في تبنّي القضيّة الفلسطينية والتضحية من أجلها بدافع الوعي بالهوية الواحدة وبالعدو الواحد وإنّ النّاظر للسنوات اللاّحقة منذ نكبة 1948 يلحظ دون عناء تواصل الرّوح ذاتها رغم تنكر البعض وتعب الآخرين.

------------------------------------------------------------------------
1- سبق لزميلنا المرحوم سمير البكوش أن تناول الموضوع في مقال صدر له بمجلة روافد عدد 6/2001 بعنوان "صدى القضية الفلسطينية بتونس وصراع القوى السياسية حولها 1947—1948" ونحن في هذه المحاضرة أخذنا الكثير عن هذه الدراسة وأتممناها بإطلاعنا على الأرشيف الفرنسي (الإقامة العامة) وصحف العصر وشهادات المقاومين.
)R.198, Série Tunisie Fonds de la Fonds de la Résidence, D1, C.1871(1),ff.159-169)2- المعلومات الآتية مأخوذة عن تقرير للأمن الفرنسي بتاريخ 5/12/1947
(R.198, Série Tunisie F.R., C.1871),f 216-220) -تقرير المقيم العام بتاريخ 10/12/1947. 3
4-سمير البكوش، م م .ص. 37-.38
- ن.م.ص. 40 وتقرير المقيم العام ليوم 10 ديسمبر 1947،م .م. 5
- تقرير المقيم العام ( 10/12/1947،م م.، ص.216. 6
7- تقرير أمني بتاريخ 6 ماي 1947 بأرشيف الخارجية الفرنسية (R198,F.R, C1871 (1), D1, ff.29-32), ولمزيد التفاصيل في النشاط الصهيوني راجع:الهادي التيمومي، النشاط الصهيوني بتونس بين 1897 و 1948 صفاقس التعاضديّة العمّلية للطباعة والنشر1982 .
-انظر مقالنا:" ظاهرة الجوع في تونس ما بين 1944 و1947" بالمجلة التاريخية المغاربيّة،عدد ماي 1994. 8
(R 198, F.R., c. 1871(1),f-360-364)9 -تقرير المراقب المدني بقابس بتاريخ 8 جوان 1948 بأرشيف الإقامة العامة
(R.200.F.R.D1) -تقريرالمقيم العام لشهر نوفمبر 1948 لوزير الخارجية بأرشيف الإقامة العامة 10
11-تأسست هذه الودادية في 12 فيفري 1956 في اجتماع بدار الاتحاد العام التونسي للشغل، نهج سيدي علي عزّوز من" الإخوان المحاربين تحت لواء الجامعة العربيّة" وتشكلت هيأتها المؤقتة من : علي بن الحاج بلقاسم كاتب عام ، الهادي بن عمّار بن عبد الله ، كاتب عام مساعد،المولدي زليلة رئيس، عمّار بن سعيد بن عبد الله كاهية رئيس، عادل ابراهيم الكيلاني أمين مال، عبد الرزاق العلي كاهية أمين مال، محمّد بن عمر بن نصر حافظ أوراق، أعضاء: الناصر عبد الله، بوبكر العربي، بلقاسم بن عمّار، الهادي المكي إمام. الصّباح 16 فيفري 1956.
12 - هذه المراسلة أوردها مترجمة المقيم العام جون مونس في تقريره بتاريخ 3 جوان 1948 بأرشيف الإقامة العامّة(R.198,F.R, D1 .C.1871(1), ff.312-318
13 -ن.م.
14 - تقرير جون مونس بتاريخ 22/7/1948 بأرشيف الإقامة العامّة R.198,FR ;C1871(1),D1, ff.349-351))
15 -تقرير جون مونس بتاريخ 17/5/1949 بأرشيف الإقامة العامّة (351R.198,FR ;C1871(1),D1, ff.44-)
16 - تقرير جون مونس ل 22/07/ 1948، م م.
17 - تقرير جون مونس ل 22/07/ 1948، م م.
18 -تقرير المقيم العام مونس بتاريخ 5 جوان 1948 ، أورده البكوش في المصدر المذكور، ص.47
19 -تقرير المقيم العام بتاريخ 8 جويلية 1948 " R198 F.R ; C. 1871, D1, ff 383-382))
20 --تقرير مونس ل 15/07/1948 بأرشيف الإقامة العامّة (R198 F.R.. D1,ff 399-398)
21 - سليمان أبو نادي، التونسيون والقضية الفلسطينية حتى عام 1948، تونس، دار المغربيّة للنشر، منشورات دائرة الثقافة لمنظمة التحرير الفلسطينية، 1992،ص 163.
22 - انظر في سيرة هذا المقام مؤلفنا: اليوسفيّون وتحرّر المغرب العربي، تونس، المغربية الطباعة والنشر، 2007،ص.141


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.