برغم تطور الخطاب السياسي للحركات الإسلاميّة فإنّ بقاء الفكر الديني محنطا في قوالب ووصفات جاهزة يقود حتما إلى التطرف والتعصب والانغلاق بقلم:الأستاذ اعلية علاني انطلق السيّد راشد الغنوشي في مقاله الأخير، المنشور في موقع " الجزيرة نت " يوم 30 ماي 2009 تحت عنوان " إلى متى تستمر حرب الإسلام على الإسلام؟ "، من خسارة الإسلاميين في الكويت- دون أن يسميهم- وذلك في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ماي 2009 وأراد أن يهوّن من هذه الخسارة بل ويعتبرها دفعا للتهمة أو" للفزاعة" التي كانت تخيف الأنظمة العربية من نجاح الاسلاميين في الانتخابات والتي يتخذها الحكام– حسب رأيه- ذريعة لتأجيل دمقرطة مؤسسات الحكم في بلدانهم، لكنه لم يتساءل عن سبب الخسارة: هل تكمن في التكتيك أم في الاستراتيجيا التي اتبعها الإسلاميون في هذه الانتخابات أم في الاثنين معا؟ اعتبر الغنوشي التدخل الخارجي في العراق وأفغانستان كارثيا ومع تسليمنا بوجاهة هذا الرأي فإننا نلفت نظره إلى أننا لم نسمع نقدا له في العمق لحكم طالبان الذي جاء نتيجة دعم خارجي معلوم، هذا بغض النظر عما قدمته تجربة طالبان من صورة مشوهة للإسلام. كما أن تعليقاته وبياناته الصادرة بمناسبة حرب الخليج احتوت على الموقف ونقيضه مما عرضه لنقد زملائه "الإخوان" في الكويت عندما غض – في مرحلة أولى – الطرف عن إدانة الغزو العراقي لبلادهم . إن إدانة الغنوشي لحسم الخلافات السياسية عن طريق التصفية الجسدية على غرار ما يقوم به الشيخ عويس في الصومال، كما ورد في المقال، أمر جيد وينم عن تطور إيجابي للمنظومة الفكرية للشيخ الغنوشي إلا أن التساؤل الذي أغفله هو كيف نبني فكرا يحرم التكفير ولا يشرّع للتصفية الجسدية ؟، فهذا الأمر يجب أن يطرح بإلحاح داخل الحركات الإسلامية، والتي نجد أن أغلبها لم تطور فكرها الديني من الداخل بل اكتفت بخطاب سياسي متقلب حسب الظروف. و في هذا السياق نشير إلى أن عديد الحركات الإسلامية ومنها حركة النهضة التونسية تطورت في خطابها السياسي ولم تتطور في فكرها الديني ،وهنا تكمن المعضلة لأنه طالما بقي الفكر الديني محنطا في قوالب ووصفات جاهزة، فإنه يقود حتما إلى التطرف والتعصب والانغلاق. وتكفي الإشارة هنا إلى أن النص المرجعي للفكر الديني لحركة النهضة بتونس الصادر منذ سنة 1986 والمعروف تحت اسم " الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي" لم يتغير لحد الآن رغم تعرضه للنقد من عديد الأقلام الإسلامية، إذ لم يصدر لحد الآن نص جديد يحيّن أو يطور بعض المقولات الواردة فيه والتي اعتبرها البعض انتصارا للرؤية الأشعرية ولأولوية النقل على العقل. صحيح أنّ الغنوشي قدّم بعض الإضافات النوعية في كتاباته اللاحقة لكنها لا ترقى إلى نص مرجعي شامل ومتكامل. إن حديث الغنوشي عن تجربة المشاركة السياسية الفاشلة لبعض الحركات الإسلامية في الجزائر والسودان، في إشارة واضحة لحركة مجتمع السلم التي أسسها الراحل محفوظ نحناح وللتيار الإسلامي لصديقه حسن الترابي، يطرح تساؤلا عن شكل المشاركة التي يرتئيها، وهي مشاركة تخضع ، في الحقيقة ، لخصوصية كل بلد وتراثه وإرثه التاريخي. فهل يريد بذلك أن يعيدنا إلى ما كان ذكره سابقا وإلى زمن غير بعيد عندما كرر مساندته الواضحة للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر، وألمح إلى أن صديقه نحناح خسر عندما راهن على السلطة القائمة ونسأل الشيخ الغنوشي: هل يكفي أن تأتي الجبهة الإسلامية عن طريق صندوق الاقتراع لكي تكون النموذج الأسلم للحكم رغم معرفتنا ومعرفته بالظرفية المعقدة التي حفت بهذه الانتخابات، وبما يكنه الرجل الثاني في الجبهة السيد علي بلحاج من رفض للديمقراطية ولقيم الحداثة الأخرى. أم أن الشيخ الغنوشي بنى استنتاجاته استنادا للتطورات السلبية التي عرفتها حركة حمس الجزائرية بعد الانشقاقات الأخيرة التي حصلت في صفوفها في شهر أفريل الفارط. لقد حمل الغنوشي على عويس في الصومال لأنه حرّض على تقاتل المسلمين فيما بينهم واستشهد بالآيات القرآنية التي تحرّم على المسلم قتل أخيه المسلم وهو موقف مشرف في نظرنا، لكن مسألة الحروب بين الفصائل الإسلامية وغير الإسلامية لا نخضعها لمنطق الحلال والحرام فالصحابة الأوائل، رضوان الله عليهم، تقاتلوا فيما بينهم من أجل الحكم منذ عهد عثمان وهم يدركون جيدا مضمون هذه الآيات، مما يثبت أن للدين منطقه وللسياسة منطقها حتى وإن لبست لبوس الدين، وبالتالي فحل النزاع السياسي في الصومال وغيره من البلدان لا يكون دينيا بإيجاد التبريرات الشرعية لذلك، بل يكون سياسيا من خلال قنوات وأطر سياسية وميكانزمات قانونية. لقد تحسر الغنوشي ، في مقاله أيضا، على ضياع مؤسسة الخلافة لغياب الشورى وكأن هذه الخلافة جزء من العقيدة، ثم نجده من جهة أخرى ينحي باللائمة على الإسلاميين لرفضهم للديمقراطية ولحق المواطنة وهي مفاهيم لا تتفق بالضرورة مع مؤسسة الخلافة. الإيجابي في طرح الغنوشي في هذا المقال هو انتقاده لشعار معظم الحركات الإسلامية "الإسلام هو الحل" الذي يخفي في الحقيقة عجز هذه الحركات عن طرح برنامج مدني لمشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بحتة لا تتأثر بأوامر عالم الدين ونواهيه، بل تستنبط من واقع قال عنه الرسول عليه السلام قديما " أنتم أعلم بأمور دنياكم". تلك هي جملة من الخواطر ندعو الشيخ الغنوشي أن يتقبلها بكل أريحية .