اتحاد الشغالين واستحقاقات المرحلة الانتقالية بقلم:الحبيب بوعجيلة تعيش الساحة النقابية منذ فترة طويلة على وقع جدل عميق يمتد من قاعات المؤتمرات إلى مواقع الشبكة العنكبوتية وصولا إلى الصحافة المكتوبة خصوصا بعد تفاعل قيادة المنظمة النقابية في أعلى المستويات مع ما يطرحه الجدل من إشكاليات وتحتل المسالة الديمقراطية داخل الاتحاد و هاجس الهيكلة وأساليب التسيير صدارة الاهتمام من خلال ما يبديه البعض من تخوفات حول "مصير الفصل العاشر " الذي تم إقراره في مؤتمر جربة الاستثنائي .ومما لا شك فيه أن " سخونة الأجواء " واحتقانها أحيانا حول هذا الموضوع مرتبطة بطبيعة الحال بحجم التحديات التي تواجه المنظمة العتيدة في هذه الفترة الدقيقة والانتقالية والحاسمة من تاريخ البلاد .ذلك أن الجدل حول "الفصل العاشر " هو في جوهره التعبير الظاهر عن انشغالات الأسرة النقابية بما سيكون عليه أداء الاتحاد العام التونسي للشغل في خضم الاستحقاقات الاجتماعية و السياسية التي تنتظر بلادنا في الأشهر القليلة القادمة . ولا يبدو هذا الجدل "النقابي /النقابي " شانا داخليا خاصا بمنظمة الشغالين بل من الواضح انه موضع متابعة و مراقبة من أطراف عديدة بداية من السلطة وصولا إلى أطياف المعارضة بتوجهاتها المختلفة و ذلك بحكم تنوع منخرطي الاتحاد ومناضليه الذين يمثلون قرابة ال65 بالمائة من مجموع السكان النشطين بالإضافة إلى أن منظمة الشغالين كانت منذ نشأتها متجاوزة لطابعها المهني ألمطلبي لتكون في صلب الأحداث العامة في البلاد تأثيرا وتأثرا . ويبدو على العموم أن الصفة الغالبة على الجدل لحد الآن عل الأقل قد بقيت بين الأطراف والقوى " المسؤولة " في حدود "النبرة المعقولة " ويهمنا في هذا الصدد أن نسجل بايجابية تفاعل المركزية النقابية مؤخرا مع هذا الجدل بتصريحات مهمة و"جريئة" لبعض قياداتها و بقطع النظر عن حجم الاختلاف أو الاتفاق معها فان هذه التصريحات تعد ترجمة علنية للاحترام الذي تكنه قيادة المنظمة لمنظوريها مهما اختلفت توجهاتهم كما تؤكد أن الجدل الذي يدور في البلاد وفي الهياكل الوسطى والأساسية للاتحاد يجد صداه بطبيعة الحال لدى القيادة التي لا شك أنها تدرك تماما جدية الإشكاليات المطروحة على راهن المنظمة ومستقبلها المنظور وان كانت هذه الملاحظة لا تمنعنا من الإشارة إلى منسوب "التوتر" الذي تتجه إليه بعض المماحكات التي تميل إلى "المنطق العدمي " و "شخصنة الصراعات "والإمعان في التجريح و الاتهامات مما يجعل أصحابها خارج مجال التأثير الذي لن يتأتى إلا بصياغة قراءة واقعية لواقع الاتحاد والبلاد من اجل "اقتناص" المشترك في خطاب جذاب قادر على الفعل في مجريات الأحداث وتدعيم الثقة في المؤسسة النقابية و طاقاتها النضالية المتجددة مهما كان موقفنا من الراهن . فترة التسعينات : ما لها وما عليها من المؤكد أن حجم التراجعات الاجتماعية التي هزت المقدرة الشرائية للشغالين وأصبحت تقضم باطراد مكاسبهم السابقة بالإضافة إلى مظاهر الاحتقان السياسي وتعطل مسارات الإصلاح وإجراءات التضييق على الحريات هي عوامل تعمق حالة الغضب و التوتر مما يدفع في أحيان كثيرة إلى استخلاصات متشائمة تلخص مسار المنظمة الشغيلة في العشريتين الأخيرتين في مربع الارتهان و الاستسلام باعتماد نظرية المؤامرة و الاتهام " المشخصن " بالفساد والعداء لمصالح الطبقة العاملة . غير أن قراءة واقعية لمجريات الأحداث التي مرت بها بلادنا منذ ما يقارب العقدين تؤكد أن تعقيدات الوضع الداخلي والإقليمي والعالمي تدفعنا إلى تنسيب هذه المواقف "القاسية " في تقييم تمشيات قد نختلف في تقييم نسب نجاحها و لكننا لا نستطيع أن ننكر ما حققته في حماية المنظمة والحفاظ على الحد الأدنى من مكاسب منظوريها وسط عواصف "الاستقطاب السياسي الحاد" الذي شهدته البلاد أوائل التسعينات وفي خضم التحولات الدولية "الدراماتيكية " بداية من انهيار المعسكر الاشتراكي و استفراد العولمة الليبرالية المتوحشة بمقدرات العالم وصولا إلى تداعيات حرب الخليج الثانية . لقد اختار الخط السائد في المنظمة النقابية على امتداد عشرية "التسعينات" اعتماد "عقد وفاقي" على قاعدة الكسب المتبادل في اتجاه الحفاظ قدر الإمكان على الوظيفة "الرعائية " للدولة وضمان إعادة توزيع للثروة يضمن اقل ما يمكن من مظاهر الإجحاف ويمنع المس قدر المستطاع من الوضع المستقر عموما للطبقة الوسطى وانطلاقا من "فلسفة اجتماعية " تعتبر المرحلة لحظة دفاع في مواجهة "العولمة الزاحفة" و تحدد التناقض الرئيسي بين "المؤسسة الاقتصادية الوطنية " و" المؤسسة الأجنبية " .وقد كان هذا الاختيار مترجما سياسيا في الانحياز إلى جانب الدولة والنظام في صراع أوائل التسعينات . كما تمت ترجمة "خيار العقد الوفاقي " اجتماعيا من خلال خيار السلم الاجتماعية عبر مفاوضات تمنح الدولة هامشا لإعادة التوزيع والهيكلة بمهلة تمتد إلى 3 سنوات متجددة و هي العوامل التي ساهمت بطبيعة الحال في مجمل " النجاحات " التي تتباهى بها السلطة في أدائها الاقتصادي والاجتماعي . ليس من العسير طبعا تفسير هذا الخيار "البراغماتي " فالمنظمة الشغيلة تعتبر على امتداد تاريخها الطويل أن الدولة هي المخاطب الرسمي والمفاوض الأساسي للاتحاد بحكم التركيبة الاجتماعية لمنخرطيه ..كما إن الاتحاد ظل باستمرار يختار جانب السلطة في فترات الاستقطاب الكبرى خصوصا حين يكون "بريق شرعيتها " ضامنا لقوتها في مواجهة خصومها (موقف الاتحاد في الصراع اليوسفي البورقيبي – موقفه في صراع المتشددين مع التحرررين بقيادة المستيري أوائل السبعينات – قبوله بتجميد الأجور من 1957الى 1963 ...الخ) وعلى العموم وبعيدا عن المزايدة – بمفعول رجعي – فان هذا الخيار الوفاقي ظل على العموم محل إجماع اغلب التيارات النقابية والسياسية ضمنا أو علنا على امتداد عشرية التسعينات . المستقبل و البناء على المشترك غير أن ما سبق من ملاحظات لا يمنع اليوم مشروعية المطالبة بإعادة النظر في هذه التمشيات بحكم التحولات الجوهرية التي طرأت على المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالبلاد . والحقيقة أن مطالب المراجعة الجذرية لوضعية "التعاقد الاجتماعي بالبلاد " قد بدأت في الظهور منذ بدايات الألفية الثالثة مع ظهور أعراض "الوهن " في نموذج التنمية المعتمد ووصول "المنظومة السياسية " القائمة إلى حدودها مما جعل الإصلاح الشامل مطلبا شرعيا لتجاوز حالة الجمود ووضعيات الاحتقان الاجتماعي وتجديد قدرات البلاد على مواجهة الاستحقاقات والتحديات الجديدة التي تنتظرها . لقد بات من الواضح أن التحولات الجذرية التي شهدها الوضع الاقتصادي في البلاد تبين باطراد أن الدولة لم تعد قادرة على الاضطلاع بمهامها التقليدية في المجالات الاجتماعية المتنوعة كما إن نفوذ المجموعات وأصحاب المال الجدد أصبح يتزايد باستمرار وفي سياق التحولات العالمية والداخلية تشهد البلاد بروز صراعات جديدة وفرزا اجتماعيا وسياسيا مختلفا يعمق صراع المصالح وتمايزها مما يدفع باستمرار نحو "اكراهات" تجديد بنود " العقد السياسي والاجتماعي بين " الدولة والمجتمع بفئاته وتياراته المختلفة . ولقد بات واضحا منذ مؤتمر "جربة" في 2002 أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان واعيا بهذه "الاكراهات" التاريخية فبدا الحديث داخل المنظمة على ضرورة مراجعة مبادئ العقد الاجتماعي وبرز خطاب "التصحيح " من أعماق القيادة نفسها في اتفاق واضح مع قواعدها لإعادة النظر في "أسلوب التفاوض الاجتماعي وغاياته " ولتأهيل " الهيكلة الداخلية " للاتحاد بما يتيح للمنظمة استعادة دورها كاملا " للمشاركة " في الصياغة الإستراتيجية لمصير البلاد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي بل إن "أدبيات" الاتحاد منذ أوائل الألفية الثالثة قد استعادت خطاب " الحريات " و المطالبة بالعفو التشريعي العام و "تعزيز الديمقراطية " و"حقوق الإنسان " من منطلق قناعة راسخة بان الدور "التعديلي" للاتحاد ومهمته في حماية مكاسب "الدولة الحديثة " والدفاع على عموم منظوريه لا يمكن أن يتم إلا في إطار مجتمع ديمقراطي قائم على تعددية فعلية ومجتمع مدني قوي يمثل الاتحاد " العصب الرئيسي" داخله و لعل هذا ما أعاد للأذهان الدور الرائد الذي لعبته المنظمة أواخر السبعينات . ورغم تعثر هذا الخطاب بحكم أحداث داخلية ودولية مرة أخرى (أحداث سبتمبر – غزو العراق – إستراتيجية الحرب على الإرهاب وضمور المطلب الديمقراطي ) فانه يعود اليوم بشدة في الأوساط النقابية والسياسية وأتصور أن هذا الجدل سيكون مثمرا على مستقبل المنظمة والبلاد إذا ارتبط بجملة من الاتفاقات المبدئية أجملها في ما يلي : 1/ الإقرار بنهاية عهد الدولة ذات النزعة المركزية والبيروقراطية التي تصر على اعتبار المنظمات مجرد وسائط لاختراق المجتمع والسيطرة عليه والاعتراف بان العلاقات الزبائنية القائمة على طلب الولاء والسكوت عن المطالب الاجتماعية والسياسية مقابل المكاسب لم تعد ممكنة فالتحولات الاقتصادية بالبلاد تؤكد تآكل القاعدة "الزبائنية " للدولة بالإضافة إلى أن هذه التحولات تؤكد حاجة المجتمع إلى منظمات تمثيل حقيقي تتفاوض من خلالها فئات المجتمع و تتعاقد وتنجز التسويات الضرورية على أساس الشراكة الفعلية في تقرير المستقبل الاستراتيجي للبلاد وفي جو من الديمقراطية الفعلية بما هي آلية معاصرة في إدارة الصراع الاجتماعي . وفي هذا الإطار وحده يمكن تدشين تفاوض حقيقي وغير مغشوش حول "منوال التنمية " المنشود الذي يمكننا من مواجهة المصاعب القادمة لا محالة . 2/ إن تطوير الهيكلة الداخلية للاتحاد بما يتيح لمناضليه هامشا اكبر في تحديد الاختيارات والمسارات أصبح مطلبا لا مناص من الاعتراف به وبقطع النظر عما يثيره الحوار حول الفصل العاشر من تشنجات أو تجاذبات " شخصانية " أو "فئوية " فان تطوير المنظمة يمكن أن يكون محل تسوية ممكنة إذا تحملت كل الأطراف مسؤولياتها في إطار قراءة واقعية لموازين القوى وفي إطار اعتبار مصلحة الاتحاد كمكسب وطني لا يجوز انهاكه بتوترات غير محسوبة النتائج 3/ إن الحركة الديمقراطية والنشطاء في مجال الإصلاح السياسي يمكن أن يساهموا في إعادة ترتيب العلاقة بين الاتحاد و الحركة السياسية بصياغة خطاب واقعي قادر على إقناع النقابيين وتعبئتهم في معركة التنمية السياسية باعتبارها جزء لا يتجزأ من معركة الرقي الاجتماعي والتنمية الشاملة والمستديمة مع الأخذ بعين الاعتبار لطبيعة المنظمة النقابية وتركيبتها وتاريخها بعيدا عن أوهام " الحياد السلبي" للمنظمة الشغيلة أو إمكانية حشرها في "الأجندة " الخاصة لهذا الطرف أو ذاك نُشر هذا المقال بالعدد الأخير من صحيفة الطريق الجديد لسان حال حركة التجديد 3 سبتمبر 2010