بين منظومتنا التربوية ونظيراتها في شتى بلدان العالم.. من «اليابان» و«بنغلاداش» و«تايوان».. مرورا بالبلدان الأوروبية وفي مقدمتها «بلجيكا» و«فنلندا».. وصولا الى «كندا» والولايات المتحدةالأمريكية.. بون شاسع بقدر بعد الأرض عن زحل.. فالجميع يدرك أن تعليمنا أعرج ويشكو منذ سنوات هنات ضعفا وهزالا، ولكن إرادة أصحاب النوايا الحسنة والقرار الحاسم كانت تحت قبضة وسوط الفعل السياسي الى درجة ارتبط فيه مضمون تعليمنا بنسبة مائوية كبيرة بصورة «الرئيس المخلوع» وتوجهات سياسته مما جعل الفاعلين في الحقل التربوي يقرّون بأن «المخلوع» باع تعليمنا وحوّله الى بضاعة روّجت بأبخس الأثمان بعد أن كان سابقا «يزمجر» فيتردّد صداه في سماء الكليات العالمية والمدارس الدولية.. ونجاحات أبنائنا منذ زمن الاستعمار الى حدّ فترة السبعينات لها صداها في كل أنحاء المعمورة وفي جل الاختصاصات والمجالات مهما اختلفت أو تنوّعت.. تعليمنا يكشف عورته في خانة «كعور.. واعط للأعور» من نقطة الارتقاء الآلي في التعليم الابتدائي وما يعتريها من خزعبلات وصولا الى هدية ال 25٪ في امتحان الباكالوريا. وللأمانة انتظر رجال التعليم جديد «سالم لبيض» وزير التربية باعتباره أستاذا في «علم الاجتماع» وابن مجال التدريس ثم استبشروا لما تنّسموا ما يفيد الرغبة الملّحة للوزير في إرساء مشروع تربوي مستحدث يحمل شعار «دراسة.. بلا محفظة» يكشف عن عناصره وأركانه من خلال عنوانه.. وهو مشروع تربوي تطبّقه جلّ بلدان العالم وخاصة في المدرسة الابتدائية حتى يصبح التعليم فيها ليّنا وطيّعا وسلسا بعد أن أثقلت المحفظة عاتق الأطفال وخنق الزمن المدرسي أنفاسهم حتى صار أغلبهم غير متوازن.. والحلّ ليس إلاّ في فسح المجال للطفل حتّى يتحرك داخل هامش من الحريّة والارتياح والانشراح ويتفاعل مع محيطه ويبصم على مواهبه في شتى الاختصاصات والميادين بعيدا عن قيود الفروض المنزلية التي كبلته وأسقطته بالضربة القاضية وجعلته بعد مغادرة المدرسة حبيس المنزل بين الحفظ وقراءة النصوص والاجابة عن التمارين وقص الصّور ورسم المشاهد الطبيعية وإعداد البحوث والملفّات حتى أنه لا يجد الوقت الكافي حتى يسترجع أنفاسه. فضمن التجارب التربوية العالمية الرائدة ينتهي اليوم المدرسي في التعليم الابتدائي على أقصى تقدير على الساعة الثالثة بعد الظهر ويغادر التلاميذ أقسامهم تاركين أدواتهم المدرسية ومحافظهم في رفوف خاصة بهم حيث يخضعون لدروس نظرية وتطبيقية يوميا بين الساعة 8 صباحا ومنتصف النهار.. ويتناولون لمجة الغداء الى حدّ الساعة الواحدة بعد الزوال ثم يؤمون قاعات المراجعة لتحضير عمل الغد في شكل فردي أو ثنائي تحت رعاية أعوان تأطير ليغادروا مدارسهم على الساعة 15 ويتجهون الى النوادي العلمية والثقافية والرياضية لتفجير مواهبهم فتستريح الأذهان وترتخي العضلات وتنتعش الأحاسيس ويعبر الطفل عما يختزنه من مهارات بدنية وفكرية.. وهذه النوادي قدمت وصنعت أسماء سطع نجمها خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى لأن المراوحة بين المعرفة والترفيه تخلق الطفل المتوازن والمتكامل القادر على الخلق والابتكار والابداع. و«سالم لبيض» وزير التربية فكّر في هذا المشروع بكل جدّ وأصرّ على تنفيذه ولكنه سرعان ما تراجع عنه تزامنا مع إعلانه عن استقالته دون أن يبرّر أو يعلّل سبب هذا التراجع المفاجئ، والتراجع عنه يثير التساؤل والاستغراب والحيرة ولا يدري أحدنا.. هل يحسم القرار لفائدة «سالم لبيض» أم ضدّه أي هل يوضع الأمر في خانة نجاح وزير التربية أم في خانة فشله لأن الذي رأى كأس الماء نصفه ملآنا أقرّ بنجاح «سالم لبيض»... والذي رأى كأس الماء نصفه فارغا حتما لمّح الى فشل الرجل شكلا ومضمونا... والدليل اختياره للاستقالة عوضا عن مواصلة مهامه. وبين بقاء «سالم لبيض» وزير التربية في منصبه وتناسي قراره في الخروج ليكمل على الأقل هذا الموسم الدراسي... هناك حتما الكثير... ومن هذا الكثير قد تكون العودة بكل وعي وتبصّر وحكمة ورأي سديد الى مشروع «تعليم.. بلا محفظة» ... وها نحن قد ذكّرنا من باب أن الذّكرى تنفع المؤمنين.