انطلق إذن الحوار الوطني فعليا واشتغل عداده بصفة رسمية ابتداء من بعد ظهر السبت الماضي ايذانا بقطف أولى ثمراته بعد ظهر يوم السبت القادم وجوبا بالإعلان رسميا عن اسم الشخصية التوافقية المكلفة برئاسة الحكومة المقبلة. فبعد مخاض دام ثلاثة أشهر انطلق الحوار في أجواء تراوحت بين التفاؤل والتشاؤم يفصل بينهما القليل من التشاؤل وبين الرضى العام والرضى النسبي وعدم الاقتناع بجدواه وبالتالي بمآله، مثلما تراوحت هذه الأجواء بين تجديد البعض حسن نواياه واخفاء البعض الآخر سوءها لتصبح المعركة السياسية معركة نوايا لا غير. المتفائلون يرون في بداية العدّ التنازلي لمبادرة الرباعي الراعي للحوار الوطني إشارة قوية بأن التوافق الوطني الحتمي قد سلك طريقا لا رجعة فيه سواء من جانب القوى الأكثر تأثيرا في السلطة (حركة النهضة والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) أو من جانب المعارضة الأكثر تمثيلية على حد سواء، وهم يرون كذلك أن الرباعي الراعي للحواروضع من الآليات ومن الضوابط ما يسمح بمعالجة التعثرات الممكنة أو حتى المتوقعة دون أن ينعكس ذلك سلبا على مسارات المبادرة وعلى آجالها. أما المتشائمون فهم يستندون الى تجارب الحوارات الوطنية السابقة بما فيها تلك التي رعاها الاتحاد العام التونسي للشغل في أشواطها الثلاثة والتي أفضت الى التمديد في نفس «الترويكا» الحاكمة وأخرجت بقية الأطراف بخفي حنين. كما أن هؤلاء يتعاملون بحذر شديد مع رسالة السيد رئيس الحكومة المؤقت المتعهّد فيها باستقالته نظريا بعد أربعة أسابيع ويرون في صياغتها رغم قصر نصها كمينا سياسيا وفخا قابلا للتأويل أو للاجتهاد السلبي أو حتى للتفجير خاصة في فقرتها الأخيرة من خلال تمرير ذكيّ لمسألتين على درجة فائقة من الأهمية تتوقفان على «احترام التلازم» أولا وعلى «توفير ضمانات متبادلة للجميع». فعلى المستوى الأول، يؤكد هؤلاء أن الأطراف الراعية للحوار والأطراف السياسية التي انخرطت في سياق الحوار قدمت من جهتها أقصى ما يمكن من التنازلات من أجل انجاح الحوار وهي بالتالي أكثر الأطراف حرصا على احترام ما اعتبره السيد رئيس الحكومة المؤقتة «تلازما» إذ لم يتبق لها سوى رفع الراية البيضاء في دلالة استسلامها للطرف المقابل. وبالتالي فإن ما اعتبره السيد علي العريض من «احترام التلازم» يوحي بشكل أو بآخر لدى الشق المتشائم بنيّة مبيّتة للاخلال بهذا الاحترام خاصة أن الأرضية تبقى ملائمة لكل الاحتمالات باستثناء الجانب المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات بعد الصفعة القانونية والأخلاقية التي وجهتها المحكمة الادارية الى اللجنة البرلمانية المكلفة بفرز الترشحات لهذه الهيئة، حتى أن هامش المناورات المعتادة أصبح ضيقا الى أبعد الحدود في ما يتعلق بهذه الهيئة. أما على المستوى الثاني، فإن المسألة الأخرى المثيرة في رسالة السيد رئيس الحكومة المؤقتة تتعلق بتوفير ضمانات متبادلة للجميع، فإذا كانت الضمانات التي يبحث عنها الرباعي الراعي للحوار معلومة لدى الجميع بما فيها حدّ أدنى من شروط استقرار الحكومة المقبلة بما قد يستوجب تعديل النص المنظم للسلطات العمومية، فإن الضمانات التي يبحث عنها الشق المؤثر في حكومة «الترويكا» وأكثر حلفائه ولاء بموجب أو بلا موجب هي ضمانات غير معلومة وغير معبّر عنها بوضوح كاف، وبالتالي فإنها لا تعني بالضرورة الضمانات المتعلقة باحترام التلازم وفق صيغة نص الرسالة مما قد يفتح الباب واسعا أمام سيل من الأخذ والرد اللامتناهي والعلني والخفيّ في خصوص الضمانات الحقيقية التي يقصدها السيد علي العريض. وبصرف النظر عن رزنامة عمل لجان التأسيسي التي وضعها السيد رئيس المجلس الوطني التأسيسي لاستحثاث نسق أشغال المجلس لجانا وجلسات عامة انسجاما مع الآجال التي وضعتها مبادرة الرباعي والتي جاءت متأخرة جدا بعد أن كان بالامكان اعتمادها قبل اغتيال الشهيد محمد البراهمي وما تبعه من تعطل أشغال المجلس، فإن الشق المتشائم يطرح تساؤلا حول مدى جدية الأغلبية البرلمانية في التجاوب بكل عفوية وبكل تلقائية مع آليات المبادرة ومع استنتاجاتها ومع آجالها، فإمكانية تمرّد أغلبية «سيّد نفسه» على أحزابها وخروجها عن قاعدة الانضباط الحزبي مقارنة بمواقف ممثلي أحزابها المصرح بها في فعاليات الحوار وقعت سابقا ولاشيء يضمن عدم تكرارها. وفضلا عن التصريحات النشاز الصادرة عن بعض أعضاء المجلس التأسيسي والتي لاتبعث على الارتياح، ينتظر المتشائمون أن يزداد الوضع تعقيدا داخل أروقة المجلس الوطني التأسيسي بالمواقف المرتقبة لنواب حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي يبقى غيابه عن الحوار موضوع جدل إن كان هذا الحزب قد أقصى نفسه من تلقاء نفسه أم أن ذلك جاء في إطار توزيع أدوار مع شركائه في الحكم، هذا فضلا عن تشكل قريب جدا لكتلة برلمانية جديدة لدعاة «الدفاع عن الشرعية» تجمع بدرجة أولى نواب «حركة وفاء» و «التيار الديمقراطي» قد ينضم اليها «تيار المحبة» والمجموعتان المحسوبتان على السيدين الصحبي الجلاصي والعربي نصرة ونواب مستقلون آخرون، وكأن بهذه المجموعة ستلعب بالمناولة الدور الذي يأمله منها غيرها في نسف داخل المجلس ما ينبى داخل الحوار، وبالتالي فإنه إذا كان بالإمكان التحكم في أشغال اللجان المختصة داخل المجلس الوطني التأسيسي، فإنه من غير المضمون بتاتا التحكم في مسار الجلسات العامة صاحبة الحل والربط في كل ما سيعرض عليها. بقي المتشائلون وهم من «بَيْنَ بَيْنَ» وهؤلاء لا يعقدون الأمور كثيرا فيمسكون العصا من الوسط، فهم مرتاحون لاستجابة رئيس الحكومة المؤقتة لطلب المعارضة من جهة ويتفهمون امكانية احتفاظ هذا الأخير ببعض اللبس والغموض من جهة أخرى، ويرون أن الحلّ قد يفرضه على الجميع صُناع القرار الدولي، وفي الأثناء قد تحمل لنا الأيام القليلة القادمة مستجدات طارئة تقلب كل المعادلات المتداولة.