*من موفدنا الخاص إلى دبي- مالك السعيد للشعوب حكمتها تعبّر عنها بأمثالها الشعبية المبثوثة بين الأجيال، وباصطلاحات مخصوصة تعكس نظرتها للحياة، وكلما أراد تونسي أن يعبّر عن إعجابه بشخص ما له قدرة على تحويل التراب ذهبا يقول اختصارا" إن فلانا يملك حجرة المسّ" ولئن كنت شخصيا لا أعرف أي صنف من صنوف المسّ يقصد بنو وطني فإني أظن -وجلّ الظن فضيلة - أن النوري بوزيد يملك هذه الحجرة النادرة ، حجرة المسّ... يصعب أن تجد موقفا محايدا من النوري بوزيد، إما أن تحبّه دفعة واحدة وإما أن تنفر منه، والنفور من النوري بوزيد متعدد الأوجه والدرجات، فقد نفر منه نظام بورقيبة فألقى به في غياهب السجن طيلة خمس سنوات(من نوفمبر 1973 إلى مارس1979) في "برج الرومي" أشهر السجون"السياسية" بتونس، وحين أفرج عنه والبلاد تحاول أن تبرأ من جراحات أحداث الخميس الأسود(26جانفي 1978) فرضت عليه الرقابة الإدارية في مسقط رأسه صفاقس عاصمة الجنوب التونسي... فقد النوري عمله القار مساعد مخرج بالتلفزيون العمومي الوحيد في تلك الأيام، وكان عليه أن يواجه مصيره سجينا مع رفاقه في حركة العامل التونسي(تنظيم يساري محظور) الذين تقطعت بهم السبل، وسلك كلّ منهم طريقه حتى أن النوري لم يغفر إلى اليوم ما قاله زعيم حزب العمال(الشيوعي سابقا) حمة الهمامي في شأنه، وها هو عبد الرؤوف العيادي اليساري سابقا لا يرى مانعا في حضور اجتماعات أنصار الشريعة والتواصل مع أقطاب رابطة حماية الثورة... في عزّ الأزمة، تتدخل حجرة المسّ رفيقة درب النوري بوزيد، إذ بفضل تدخل المنتج السينمائي حسن دلدول تمكن بوزيد من الانتقال إلى العاصمة ليستأنف عمله في السينما مساعدا لعبد اللطيف بن عمار في فيلم"عزيزة"، لا يكتفي النوري بوزيد في حديثنا معه بالإعتراف بالجميل لحسن دلدول فقط –وليس من عادة النوري أن يذكر الآخرين في حديثه عن نفسه- بل إنه يذكر طارق بن عمار بخير، فقد هبّ لنجدته وتدخل لفائدته لدى الجهات الأمنية ليسمحوا له بالإنتقال إلى المنستير ليعمل مساعدا في أحد أفلام "كارتاغو" في تلك الأيام كان طارق بن عمار قريبا من قصر قرطاج فزوجة المجاهد الأكبر لم تكن سوى عمته الماجدة وسيلة بن عمار ، وتدريجيا رفعت الرقابة الإدارية عن بوزيد وإستعاد حريته ... في خريف حكم بورقيبة أخرج النوري بوزيد أول أفلامه"ريح السد" فزعزع كثيرا من المسلمات وانطلقت سهام النقد والتجريح من الداخل والخارج، ولم يشفع للرجل برمجة فيلمه في قسم "نظرة ما" بمهرجان كان وفوزه بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية ... شكّل النوري بوزيد مع المنتج الراحل أحمد بهاء الدين عطية ثنائيا ناجحا طيلة سنوات بأعمال حققت من النجاحات ما يعسر حصره، إذ شارك فيلم صفائح من ذهب في قسم نصف شهر المخرجين بمهرجان كان 1989 و الشأن ذاته لفيلم بزناس (1992) الذي قام ببطولته عبد اللطيف كشيش المتوج مخرجا بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2012 وعرض فيلمه الوثائقي"حرب الخليج وبعد" في مهرجان البندقية (1991) و "بنت فاميليا" سنة (1996) في المهرجان عينه . وعلى قدر نجاحهما اللافت، كان انفصال بوزيد عن عطية شرخا عميقا لم يقو الزمن على مداواته حتى رحيل أحمد بهاء الدين عطية عن دنيانا . لم يتوقف النوري بوزيد عن العمل والفعل السينمائي مخرجا وكاتب سيناريو لأنجح الأفلام التونسية(صمت القصور لمفيدة التلاتلي و عصفور سطح لفريد بوغدير ...) ومدرّسا للسينما في المعاهد المتخصصة، إذ قدّم للجمهور عرايس الطين من بطولة هند صبري وبه توج بالتانيت الفضي لأيام قرطاج السينمائية (2002) يتذكر النوري بوزيد لحظات صعوده لتسلم التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية أعرق المهرجانات العربية والإفريقية (تأسس سنة 1966) لسنة 2006 عن فيلمه المشاغب " آخر فيلم" ، شعر النوري بأن وزير الثقافة-أنذاك- كان منزعجا دون سبب ظاهر، ولم تشفع له صداقته مع مقدّم الحفل (رؤوف بن عمر؟) الذي منعه من الحديث، كان النوري يريد أن يقول " إن هذا الفيلم انتصار على الخوف" وظن كثيرون أن المخرج الستيني أعلن اعتزاله بفيلمه الأخير"آخر فيلم" وربما كان النوري نفسه يظن انه حان الوقت ليغادر الشاشة . مرة أخرى يظهر المفعول السحري لحجرة المس، فقد توج "آخر فيلم" في مهرجان تريبكا –نيويورك (2007) وبالجائزة الكبرى لمهرجان وهران للفيلم العربي(2007) وأسندت مؤسسة إبن رشد للفكر الحر جائزتها للنوري بوزيد في العام ذاته وهو السينمائي الوحيد المتوج بهذه الجائزة . ولأنّ حجرة المسّ ترافقه في السراء والضراء فقد وجد النوري بوزيد في المنتج عبد العزيز بن ملوكة السند ليكون أول من يقدم فيلما روائيا طويلا بعد الثورة التي يصفها زميلنا نصرالدين اللواتي" البن علي هرب" ...خرج النوري على الجمهور بفيلم"ما نموتش" ضمّنه مشاهد موته وغسله، وكأنه يعلن موت الفنان في بلده الذي يحاول لملمة جراحات سنوات من الديكتاتورية وكعادة مخرجنا مالك حجرة المسّ توج بجائزة أفضل مخرج عربي في مهرجان أبو ظبي 2012 ليثأر من دعاة تصفيته بالقول والفعل . لا يريد النوري بوزيد أن ينسى أنه شاعر ولا يملّ من ترديد كلامه الشعري" أنا ولدتني غناية إذا نهار نموت ويموت الموت معايا نلقى قبري سرايا ومرحبا يا موت وفرقوا لحمي صدقة على عتب الجوامع وتسمع بيه الخلق، وناقف في حلق، إلي في قدمة طامع بجلدي المكلوب، نعدي حتى السامع وهاهي حجرة المسّ توصل النوري بوزيد في مهرجان دبي السينمائي في عيده العاشر رئيسا للجنة تحكيم الأفلام القصيرة ، أليست دبي نفسها تجليا صريحا لحجرة المسّ الجديرة بأن تكون نظرية لعقلية النجاح ، من كان يصدّق أن هذه القطعة من الصحراء ستصبح قطعة من الجنة؟