بقلم: أبو غسان أن تكون الميزانية محورا للنقاش في الفضاء العام فهذا من الممارسات الراقية، وهو علامة صحية شرط أن يقع الخوض في ما يهم الناس ويخدم مصلحة البلاد. وفي تونس فإنه قلّما شهدت ميزانية جدلا مثل الذي أثير حول ميزانية 2014. وقد انطلق هذا الجدل قبل شهرين، مع ظهور التسريبات الأولى لقانون المالية الجديد، ووصل إلى ذروته أواسط الأسبوع عندما طالبت بعض أحزاب المعارضة بتأجيل النظر في الميزانية إلى ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة، مقدمة سببين أساسيين أولهما إعطاء الأولوية في المجلس التأسيسي لإنهاء الدستور الجديد وتشكيل هيئة الانتخابات، ومن ثم المساهمة في إنجاح الحوار الوطني، وثانيهما تمكين الحكومة الجديدة نفسها من إعداد ميزانيتها، فضلا على أن للمعارضة مآخذ عديدة على بعض فصول قانون المالية وعلى ميزانيات بعض الوزارات ومؤسسات الدولة ترفض الحكومة الحالية أخذها بعين الاعتبار . المفارقة التي وجدنا أنفسنا أمامها هي أن مشروع قانون المالية وقع تسريبه وحبره لم يجف بعد، في حين أن مناقشة الميزانية بدأت متأخرة جدا (أقل من أسبوع من نهاية العام). ورغم أنه تم تغيير بعض الفصول عن النسخة الأولى لقانون المالية سواء من قبل مجلس الوزراء أو اللجان المختصة في المجلس التأسيسي، فإن المناقشات في الجلسة العامة تمت تحت ضغط ضيق الوقت. هذا فضلا عما بدا من انحياز النواب الكامل لمواقف أحزابهم، حيث لم نسمع صوتا يخالف صوت أحزابهم خاصة بين نواب الأغلبية الحاكمة، رغم أن عديد المواطنين من كل الشرائح، وعدد من الجهات المهنية التي لا يمكن نعتها بأنها منحازة لطرف سياسي على حساب طرف آخر، عبرت عن عدم رضاها عن هذه الميزانية، وبلّغت النواب تحفظاتها ووجهة نظرها. ولكن هذه التحفظات لم تجد صدى. وكان أن شهدنا «معركة العادة» في المجلس بين نواب الأغلبية والمعارضة وسط أجواء مشحونة واتهامات متبادلة لا تليق بنواب الشعب. وهي مظاهر زادت إساءة إلى صورة المجلس، وضاعت معها أية إمكانية لتغيير شيء ذي بال في الميزانية يمكن أن يعود بالنفع على عامة الشعب. المعطى الجديد الذي زاد في حدة النقاش حول ميزانية هذه السنة هو الدعوة إلى تأجيل النظر فيه او التي صدرت عن المعارضة في إطار جلسات الحوار الوطني، والرفض القاطع ل«النهضة» و «التكتل» لهذه الدعوة. وكذلك إسراع رئيس المجلس التأسيسي بحسم المسألة من خلال الإعلان أن مناقشة الميزانية ستبدأ صباح الأربعاء، وذلك قبل أن يعود المشاركون في الحوار الوطني للنظر في مسألة التأجيل من عدمها. وقد تسبب هذا الموضوع في الرفع من درجة التوتر بين المعارضة و«الترويكا»، وكاد الأمر يصل إلى انسحاب جديد لنواب المعارضة من المجلس، مع ما كان قد يمثله ذلك من تداعيات على مستقبل الحوار الوطني في هذه المرحلة الحساسة. وبغض النظر عن خلفيات كل طرف وحساباته السياسية يبقى تعليق النظر في الميزانية مسألة شديدة الحساسية والتعقيد، مثلما بيّن ذلك مصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي السابق أمام المشاركين في الحوار الوطني مساء الأربعاء الماضي، وهو ما ساهم في تراجع عدد من الأحزاب عن مقاطعة مناقشة الميزانية . وعدا الأبعاد المالية والتقنية التي قد تتسبب في شل دواليب الدولة أو على الأقل بعض قطاعاتها الحيوية لو تأجل النظر في الميزانية، فإنه لم يكن ممكنا ربط مصير ميزانية البلاد بالمجهول وعلى نتائج حوار وطني تبقى نتائجه غير مضمونة. ولا من خلال المراهنة على التوافق الذي قد لا يحصل بشأن تشكيل الحكومة الجديدة . لذلك فإن قرار نواب المعارضة عدم التشبث بقرار تأجيل النظر في الميزانية، وكذلك مشاركتهم في النقاش العام وإبراز ما يرونه من عيوب في مشروع قانون المالية هو قرار صائب ووجيه جنب البلاد تصعيدا جديدا هي في غنى عنه.