تتركز الأنظار هذه الأيام مجددا على المجلس الوطني التأسيسي من خلال شروع مختلف اللجان التشريعية والتأسيسية في مناقشة مشروع القانون الانتخابي الجديد المعروض عليها والذي تنتظره كل الأحزاب بفارغ الصبر باعتباره سيحدد ملامح الخارطة الانتخابية مستقبلا وسيحدد بشكل بارز الجبهات والتحالفات الانتخابية بين العائلات السياسية في البلاد ولو أنها شرعت منذ فترة غير بعيدة في التخطيط لمثل هذه الاستحقاقات. ومن أهم التحديات السياسية المطروحة في الفترة القادمة اثر الانتهاء من المصادقة على القانون الانتخابي الجديد، الذي يُعتقد انه بالإمكان الانتهاء منه في ظرف 3 أسابيع، انتظار رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الإعلان بصفة رسمية عن تحديد موعد نهائي للانتخابات القادمة في تونس والاتجاه فعليا نحو الانتهاء من المراحل التأسيسية والتوجه نحو مرحلة الاستقرار السياسي. وبتحديد الموعد الانتخابي يكون قد تم وضع حدّا لكل التجاذبات السياسية وحالة الترقب التي يوجد عليها الفاعلون السياسيون، ويمكن اعتبار هذا الموعد بمثابة خارطة طريق جديدة للأحزاب السياسية في تونس للعمل والتحرّك والشروع في إعداد رزنامة تحرّكها وضبط برامجها الانتخابية. مسألة المال السياسي ستطفو من جديد في الأثناء ستطفو مسألة مراقبة المال السياسي على السطح من جديد من منطلق أن موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعة لن يتجاوز سنة 2014 بحسب ما صرّح به مؤخرا رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار وهو ما سيفرض على الأحزاب السياسية إيجاد الموارد المالية الضرورية للتعبئة والتعريف ببرامجها وتحوّلها داخل البلاد والحرص على التموقع في المشهد السياسي والاقتراب أكثر من قواعدها وخاصة من المواطنين. ضمن هذا السياق تبرز عملية تمويل الأحزاب وبالخصوص مسألة تمويل الحملات الانتخابية، وقد طفا في الآونة الأخيرة موضوع تمويل الأحزاب السياسية في تونس ومصادر التمويل ومراقبته، وسوف تُطرح هذه العملية بإلحاح خلال مناقشة مشروع القانون الانتخابي الجديد وخاصة مع تحديد موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة ، في الوقت الذي تُسجّل فيه المنظومة التشريعية العديد من الهنات والفراغ القانوني بخصوص هذا الموضوع. وقد تمّ في المدة الأخيرة الحديث بإلحاح عن رصد أموال ضخمة لبعض الأحزاب البارزة على الساحة السياسية حيث وصل الى اتهامها بحصولها على أموال من مصادر خارجية وهو ما يتنافى مع القوانين والمراسيم الحالية. وقد اعتبر المتابعون للشأن السياسي والملاحظون أن هذه المسألة في حال تأكّدها تعتبر انفلاتا ماليا وجب التصدي له بكل سرعة قبل أن تصبح العملية خارجة عن نطاق السيطرة ولا يمكن تفادي آثارها على الانتخابات التي من المفروض أن تكون شفافة ونزيهة وتقطع كليا مع ممارسات العهد السابق. ولكن ما يمكن التأكيد عليه أن المنظومة التشريعية والقانونية الموضوعة لا تستجيب لهذه المواصفات والمعايير إذ دعا العديد من المحللين السياسيين والخبراء إلى ضرورة الإسراع بوضع نصوص قانونية تتماشى والوضع السياسي الجديد وتواكب التحولات سيما على مستوى تمويل الحملات الانتخابية. هنّات ونقاط ضعف فادحة فالمنظومة التشريعية الحالية التي تنظم الأحزاب السياسية والحملات الانتخابية وخاصة موارد تمويلها تقتصر بالنسبة للأحزاب السياسية على القانون الأساسي عدد 32 لسنة 1998 المؤرّخ في 3 ماي 1988 ويتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية والقانون عدد 48 لسنة 1997 المؤرخ في 21 جويلية 1997 ويتعلق بالتمويل العمومي للأحزاب السياسية والقانون عدد 27 لسنة 1999 المؤرخ في 29 مارس 1999 والمتعلق كذلك بالتمويل العمومي للأحزاب السياسية. أمّا الحملات الانتخابية فقد وردت بالقسم الثاني من المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي و يرى المختصون في القانون في هذا الصدد أن الفصل الثاني من قانون الأحزاب لم يستثن من الموارد سوى الإعانات المادية بصفة مباشرة أو غير مباشرة من أية جهة أجنبية وبالتالي فإنّ التمويلات الخاصة مسموح بها. كما أن الفقرة الثانية من الفصل 12 تطالب مسيّري الأحزاب بالتصريح لوزارة الداخلية بكل هبة أو تبرع خلال الثلاثة أشهر الموالية لتاريخ الهبة أو التبرع. ويُعتبر هذا الإجراء قاسيا وغير عملي، الهدف منه نوع من الوصاية والمراقبة الأمنية اللصيقة للأحزاب المُرخّص لها وتوقّع المختصون أن جلّ الأحزاب الموجودة بالساحة السياسية لا تعمل به حاليا وهو في نظرهم خرق واضح لأحكام القانون. ومن بين القراءات القانونية في مجال التمويل انه على كل حزب ضبط حساباته دخلا وخرجا وجردا لمكاسبه المنقولة والعقارية وتقديم حساباته السنوية إلى دائرة المحاسبات، ويُفهم من ذلك أن المحاسبة المُقدمة تعتمد طريقة القيد الواحد وهي طريقة لا تلبي التطور الحاصل على الصعيد الوطني والعالمي والمعايير الدولية ولا تعطي للمستعمل والقارئ نظرة شاملة وشفافة عن تلك الحسابات. أما بخصوص تقديم الحسابات السنوية إلى دائرة الحسابات فيرى الخبراء المحاسبون أن القانون لم يشر إلى ماهية دور هذه الاخيرة في المراقبة بل بقي دورها مبهما وانه كذلك كان بالأحرى إسناد مهمة الرقابة إلى مراقب حسابات يدلي في تقريره برأيه عن الحسابات المالية للأحزاب السياسية. إنّ القانون الموضوع سنة 1988 كانت أهدافه غير التي جاء بها إذ كرّس الإقصاء والرقابة الأمنية على الرقابة المالية للأحزاب السياسية وذلك لغاية مقصودة مثلما يعتبره المختصون إذ أن من مفارقات الدهر أن السحر انقلب على الساحر، فبعد 23 سنة وقع حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي بنفس الحيثيات والأحكام التي وضعها المُشرّع في ذلك الوقت. أما التمويل العمومي فقد وقع تفسيره في أحكام القانون عدد 48 لسنة 1997 وهو الذي يتم عن طريق ميزانية الدولة في شكل منح وفي الواقع فإن المنحة تُصرف سابقا مباشرة من ميزانية رئاسة الجمهورية في شكل منحة لجميع الأحزاب للمساعدة على مصاريف التسيير حددت بما قدره 60 ألف دينار لكل حزب تُسدّد على مرّتين. أمّا المنحة المتغيرة فهي حسب عدد النواب لكل حزب وقد نصّ الفصل 6 من القانون أن المنحة تتوقف إذا لم يقدم الحزب حساباته إلى دائرة المحاسبات. التركيز على مبدإ الشفافية وبخصوص الحملات الانتخابية فقد جاء بالمرسوم عدد 35 لسنة 2011 المتعلق بانتخابات المجلس التأسيسي في قسمه الثاني- الفقرة الثانية من الفصل 37 أن الحملة الانتخابية تخضع إلى مبدإ من حيث مصادر تمويلها وطرق صرف أموالها، وهنا مربط الفرس حيث أن الشفافية ليست شعارات بل ممارسة تتطلب تظافر كل الجهود والطاقات لإرسائها ومتابعة مصادر التمويل وآثاره. أما الفصل 52 فقد أكد على انه على كل حزب أو قائمة مترشحين فتح حساب بنكي وحيد ويعتبر هذا الإجراء سليما ومطلوبا لحسن سير العمليات المالية ومتابعة مصادر تمويلها. كما أن نفس الفصل 52 منع تمويل الحملة الانتخابية بمصادر أجنبية مهما كان نوعها ويمنع كذلك تمويل الحملات الانتخابية من قبل الخواص. غير أن الفصل 77 من المرسوم قد خصّ عقوبة المترشح الذي يتلقى إعانات مالية من جهة أجنبية بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالسجن لمدة عام وخطية قدرها ألف دينار وفقدان صفة المترشح أو صفة المنتخب ولم يخصّ بنفس العقوبة من يموّل حملته الانتخابية من قبل الخواص وهي ثغرة يجب تفاديها وقد يُفهم من واضع النصّ أن التمويل الخاص مُحجّر ولكن من يقوم به لا يُعاقب ويغضّ عنه الطرف. وإجمالا فإن مراقبة المال السياسي في هذا الظرف الانتقالي الذي تعيشه البلاد تبدو عملية اكيدة لتأمين ديمقراطية العمل السياسي وضمان أوفر الحظوظ لكل الأحزاب مهما كان حجمها وثقلها.