«مشاهد ألسنة اللّهب المشتعلة بجسده والدخان الكثيف المتصاعد من غرفة الإيقاف اين كان يقبع وحيدا في مركز أمن إيطالي... صراخه ولحظات الألم التي عاشها وجسده المشوّه كلها آثار لن تمحى من مخيلة «علي» رغم مرور عديد السنوات على الحادثة». «علي الطرابلسي» 43 سنة مواطن تونسي قضّى 20 سنة في إيطاليا، وجاب عديد البلدان الأوروبية كفرنسا وإسبانيا قال انّه تغرّب في سنّ 17 سنة وانه لم يجد في الغربة الفردوس المنتظر ولا الجنّة الموعودة التي طالما حلم بها كغيره من الشباب، لم يعثر على عمل وعاش متشرّدا في الشوارع الإيطالية وهناك استقطبه تجّار المخدرات خصوصا بعد أن وجد أبناء حيّه وبلده يتاجرون في الممنوعات. انغمست في عالم المخدرات... في لحظات يأس وأمام الإغراءات المالية إنغمس «علي» في تجارة المخدرات ،كان تارة يبيع بعض الغرامات وأخرى يستهلكها لنسيان الواقع المرير الذي يعيشه، قال: «لم أكن أخشى مافيا المخدرات بقدر خشيتي من «البوليس» الإيطالي فهو لا يرحم والقوانين قاسية ولا تتسامح مع المقبوض عليهم» . وكشف «علي» انه كان مغرما بكرة القدم وانه كان يحلم بأن يصبح لاعبا مشهورا، ولكنه منذ استقراره بإيطاليا تحوّل الى مدمن وتاجر مخدرات، وأضاف: «كنت أمارس هوايتي في السجون الإيطالية حيث كوّنت فرقا وكنّا نلعب كرة القدم هذه الرياضة التي عشقتها ومازلت أعشقها» وأضاف: «لم أجن مالا كثيرا من تجارة المخدرات بل كنت ما أتحصّل عليه من مال أسدّد به مصاريفي ونفقات الإيجار أمّا البقية فأنفقها على المحامين لتخفيف العقوبة وخصوصا عندما يقبض عليّ، فقد كنت أغادر السجن لأعود إليه بعض بضعة أشهر... كان عالمي منحصرا في ترويج المخدّرات ولم أحاول البحث عن بديل». تعرّضت إلى التعذيب في مراكز الإيقاف وأكّد علي انّه قضّى أكثر من 12 سنة في السجون الإيطالية وكشف ان السجون أرحم بكثير من مراكز الإيقاف وقال «في الإيقاف يتم تعنيف المقبوض عليهم وخصوصا الشباب من أصول عربية وتجار المخدرات» وأضاف: «يقولون لنا لماذا تريدون قتل أبنائنا؟» وقال ضميري يؤنّبني لأني فعلا لا أدري كم حطّمت نفسي بهذه الآفة وربما قد أكون أيضا سببا في وفاة آخرين وذلك بعد إدمانهم المخدرات وأكّد انه لم يكن يروّج كميات كبيرة وإنّما ما بين 100 و200 غرام على أقصى تقدير، وكشف انّ حرفاءه تونسيون وجزائريون وايطاليون... الحادثة الأليمة وأضاف علي انّه في 2004 تم إيقافه وحكم عليه ب 3 سنوات ونصف سجنا ولكنّه هرب فتم إيقافه مجدّدا، وأثناء الإيقاف بمركز امن إيطالي تعرّض إلى التعنيف والضرب والركل وحتى الإهانات على حدّ قوله، وقال إنه وللأمانة توّجه بكلام جارح للبوليس الإيطالي وأضاف انه كان يتقن اللغة الإيطالية وكان يعرف القوانين جيدا والتي تمنع الاعتداء على الموقوفين ولذلك تكلّم معهم بلهجة حادة، وأكّد انّه ليلة إيقافه بالسجن التي تزامنت مع نهاية الأسبوع وأيضا مع أحد الأعياد في شهر مارس نام كعادته وكان وحيدا في الزنزانة في انتظار إحالته على السجن ولكنه في الليل فوجئ بألسنة اللّهب تشتعل في السرير وقال انّ الغطاء الصوفي التصق بجسمه مضيفا: «تمكنت من الوصول إلى باب الزنزانة بصعوبة بالغة لأن الدخان كان كثيفا والتهوئة منعدمة، وبدأت أصرخ وأصرخ ولكن لا مجيب»، وقال في لحظة كدت أسلم فيها الروح للخالق لاح لي ظلّ شخص... لقد كان رئيس المركز، لقد سمع صراخي خاصة أنه يقطن فوق المركز، ففتح الزنزانة وارتميت في حضنه رافضا تركه ممّا تسبب له في حروق بيديه وجسمه وتم نقله معي الى المستشفى». وأضاف «علي» «لم أفق إلاّ وأنا في المستشفى، في البداية لم أكن أرى ولا أميز الأشياء فقد كنت في حالة صدمة ومكثت أياما بالمستشفى واستغرق تماثل جسدي للشفاء فترة طويلة» . خوف وارتباك من التصفية الجسدية ؟ وقال علي انّه على يقين ان من قام بالجريمة هم من مركز الأمن الإيطالي وذلك ردا على تعنّته وإزاء الكلمات التي تلفظ بها نحوهم، وأكد ان رئيس المركز لم يكن يعلم بالاعتداء لأنّه الوحيد الذي هبّ إلى نجدته رغم صراخه الشديد ورغم تواجد عدة أمنيين هناك، وأكد انه يوم التحقيق معه بالمستشفى خاف من تصفيته جسديا لأن الحقيقة خطيرة جدا وأكد انه ساعتها لن ينقذه أيّ كان هناك، وقال انه أراد الهروب من ذلك الجحيم فاختلق قصة محاولة «حرق نفسه» بسبب حالة اليأس التي مرّ بها، وقال «قلت لهم أني أخفيت ولاّعة وأشعلت النار في جسمي». وأضاف: «هذه القصة كانت واهية لأنه تم تفتيشي جيدا والقوانين الإيطالية صارمة جدا في هذا المجال» وقال لا يمكن لأي كان إدخال أي شيء معه إلى غرفة الإيقاف وعادة ما يتم أخذ المال والملابس وكل شيء تقريبا وبالتالي لا يمكن للسجين إدخال أي شيء معه فما بالنا بولاعة ؟». وأكد أنهم كانوا يعرفون ان روايته مختلفة وأنه كان يريد تخليص نفسه والذهاب مباشرة إلى السجن لقضاء العقوبة لأن السجن بالنسبة إليه أرحم. عودة لكن... وأضاف علي انه طلب في 2007 ان يعود الى تونس أي مباشرة بعد قضاء العقوبة السجنية ولكن لحظات اشتعال النيران ولحظات الألم الذي مرّ بها هناك لم تمح من ذاكرته وقال: «خلال الثورة التونسية توجهت 3 مرات إلى ليبيا وكنت رفقة مجموعة من «الحارقين» ولكني كنت الوحيد الذي لا يجرؤ على امتطاء قوارب الموت إذ سرعان ما أغير رأيي»، وأضاف «انا أعرف «إيطاليا» جيدا واعرف المأساة التي يعيشها المهاجرون غير الشرعيين ولكن هدفي لم يكن الإقامة هناك ولا جمع المال بل إظهار حقّي وفتح ملفي مجددا»، وأكد «علي» انه لم يتمكن من الذهاب وكان في كلّ مرة يعود الى بيته خائبا.وكشف «علي» انّه عمل في عدة مراكز نداء بحكم إتقانه للغة الإيطالية وان قصته ظلت تؤرقه بإستمرار وان سؤالا مازال يتردّد على مسامعه وهو: لماذا أرادوا حرقه؟. وقال: «سأظلّ ممتنا الى رئيس المركز فقد أنقذني من موت محقق ولكني أريد الكشف عن بقية الأطراف وبإمكاني إظهار حقي لأن الأشخاص الذين فتّشوني قبل دخول الزنزانة يعرفون جيدا أني لم أحرق نفسي واني لا أملك ولاعة». وعبرّ «علي» عن أمله في ان يتطوّع احد المحامين للسفر معه وإظهار الحقيقة وقال سأكون ممتنا وهذا العمل سيكون أكبر معروف يسدى إليّ لأرتاح من العذاب. أخطأت وهذه نصيحتي للشباب وقال أعترف أنّي أخطأت واني سلكت طريقا غير جيدة ولكني حصلت على عقابي وقضيت عدة سنوات من أحلى سنوات عمري في السجن، ولكن هل يبيح هذا «حرقي» وفي بلد يدعي الديمقراطية والقانون؟ وأضاف لن أسامح الفاعل وخصوصا من أراد قتلي وسأكشف الحقيقة طال الزمان أم قصر. ونصح علي الشباب التونسي بعدم الهجرة السرية لأنّهم لن يجدوا الفردوس المنشود وقال هم يفرّون من «البطالة» في تونس ولكنهم لن يجدوا أي شيء هناك.