«عيد الشغل أصبح عيد الشعب، عيد تونس، عيد أعظم عبرة، عيد السّواعد القوية، عيد التضحية، عيد الثورة الاجتماعية التي حرّرت الشعوب من الأغلال...إنّ احتفالكم بعيد الشغل له معنى وأيّ معنى فلا بدّ بعد الاحتفال بهذا العيد أن يفتح باب جديد للنّضال حتّى نقضي على قوى الرّجعيّة وحتّى نكسر القيود التي تغل شعبنا.» هكذا قال المناضل النقابي والسياسي فرحات حشاد في خطابه بمناسبة عيد الشغل العالمي في غرّة ماي من عام 1951. واليوم وفي سنة 2014 تحتفل تونس بهذا العيد العمالي وتُحيي ذكرى ملاحم نضال الطبقة العاملة ضد أشكال الاستغلال وألوان الاضطهاد ... فماذا يعني عيد الشغل بالنسبة للتونسيين ؟ وكيف هي صورة هذا الاحتفال العمالي في عيون الشارع التونسي؟ وبين عيد آفل وآخر آت هل تحسنت أوضاع الطبقة الشغيلة؟ بحثا عن إجابة لهذه الأسئلة قامت «التونسية» أمس بجولة في الشارع التونسي وعادت بالريبورتاج التالي : يعود تاريخ إقامة أوّل عيد شغل بتونس إلى سنة 1946 وهي سنة تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل ولكن لم يقع إقرار الاحتفال بهذا العيد رسميّا إلاّ سنة 1948. ويقترن اليوم العالمي للعمال الموافق لغرة ماي بأحداث 1886 بشيكاغو حين نزل آلاف العمال إلى الشوارع مطالبين بتحسين أوضاعهم متحدّين أجهزة القمع الوحشية وأسلحة الموت... فأصبح يوم غرة ماي رمزا للنضال من اجل يوم عمل ب 8 ساعات وإيقاف استغلال الإنسان للإنسان . العيد الرمز لم تخل فصول السنة الفارطة من الاحتجاج حيث شهدت مسلسلا متواصلا من الإضرابات طالت عدواها أوصال جل القطاعات بلا استثناء ...و في هذا السياق اعتبر «رضا» (فنّي بشركة) أن كثرة المطلبية والاحتجاجات العمالية أنهكت اقتصاد البلاد مطالبا بالانصراف إلى العمل الجاد أولا ثم المرور إلى المطالبة بالمستحقات في مرحلة ثانية . وأضاف : «للأسف يحصر البعض عيد الشغل في كونه يوم راحة في حين أنّ هذه المناسبة هي رمز للكرامة والحق في العمل واحترام الذات البشرية ...» و اتفق الصديقان «هادي» و«كريم» على أنهما غير معنيين بعيد الشغل طالما أنهما من أصحاب المهن الحرة وطالبا بإيقاف العمل بهذا العيد الذي لا يتجاوز كونه مجرد يوم للعطلة والحال ان البلاد في حاجة ماسة إلى زيادة نسق الإنتاج . جميلة اتخذت من محيط شجرة وارفة الظل بجوار مدخل «حديقة البلفدير» مكانا لنصب عدّتها واستقبال حريفاتها من الراغبات في «نقشة الحرقوس» ودون أن ترفع رأسها عن يد الحريفة حتى لا تقطع انسياب خطوط النقوش البديعة قالت في فرح : «عيد الشغل متاعهم ما يهمنيش أما كيف يجيبلي قسم نفرح بيه... ( مشيرة إلى ازدياد عدد الزوار لحديقة البلفيدير أيام العطل )». وما لبثت ملامح «جميلة» أن تجهمت وتعكر مزاجها وهي تروي معاناتها لتوفير قوت أبنائها اليتامى وسط ملاحقة الشرطة البلدية وامتناع السلطات عن مدّها برخصة عمل ...متسائلة في ألم : «لماذا لا يتكرّمون على أمثالي بتسوية مهنية حتى نحتفل معهم بعيد الشغل ؟! أين الكرامة في الأجر والمعاملة؟ «بالله عليكم عن أي عيد شغل تتحدثون وكثير من العمال من العبودية يعانون...» هكذا هتف عون الحراسة «صالح» في حدة وألم مضيفا : «نحن عمال المناولة مازالت شركات السمسرة التي تجني من وراء كل عون منا حوالي ألف دينار ولا تتصدق علينا سوى ب 300 دينار تتلاعب بنا في حين أن النقابات صامتة والحكومة تتجاهل وضعنا ...؟ وأردف متسائلا في إنكار: «أليس عيد الشغل هو يوم عطلة رسمية ؟ فكيف أعمل أنا وأمثالي في هذا مثل اليوم ؟ وشخصيا أعتبر حالتي المهنية البائسة شبيهة بوضع العبيد. ولهذا فإن عيد الشغل لا يعنيني طالما أنني لم أبلغ بعد مرتبة العامل صاحب الكرامة في الأجر والمعاملة.» و طيلة فترة حديث «صالح» كان رفيقه «عمر» يهز رأسه موافقا كلام صديقه قبل أن يدلي بدوره برأيه في الموضوع قائلا : «شبعنا من الشعارات الرنانة والخطابات المُناسباتية دون أفعال رسمية ...فمن سنة إلى سنة يحتفلون في ساعات بعيد الشغل بينما يسوء وضع العمال سنة بعد أخرى . فالأسعار من «نار» والأجور مجمّدة وكأنها في «ثلاجة» ... مأساة ومعاناة تحت سياط الشمس الملتهبة كانت أجساد عمال البناء تكتوي من الحرارة في سطح إحدى البنايات ممّا اضطر أحدهم إلى النزول والهرولة إلى الكشك المجاور لابتياع قارورة مياه عساها تنزل على فؤاده «بردا وسلاما»... أما عن عيد الشغل فقال «حاتم» وهو يتحسس قارورته في حنوّ وكأنها سلاحه لمواجهة وهج الشمس: «من المفروض أن يكون عيد الشغل مناسبة لتقييم وضع العمال وبالتالي تحسينه من عام إلى آخر ولكن للأسف الوضع يسوء من سنة إلى أخرى . ففي السنوات القليلة الفارطة كنت أقبض يوميا 10 دنانير وكانت تكفيني حاجتي أما اليوم فقد بلغت أجرتي 20 دينارا في اليوم ومع ذلك فهي لا تكفي لتأمين مصاريفي الضرورية ...» وأضاف بعد أن أطلق زفرة حارقة : «ما عساني أن أفعل سوى القول : «مشى في بالنا عملنا ثورة باش نرتاحو يا خي زدنا غرقنا !» كان «أحمد» (بائع لعب أطفال) يعيد ترتيب بضاعته وكأنه ينفض عنها غبار الكساد حيث بدت «نصبته» خالية من الحرفاء في زمن باتت الضرورات أولى بكل مليم. ويبدو أن وضعية تجارته انعكست على نفسيته حيث صرخ قائلا في سخرية مُرّة : «أطلب من الحكومة في عيد الشغل أن تفتح لنا طريقا مجانية نحو «لامبادوزا» حتى نشعر حقا بأننا نعمل ونعيش كخلق الله ...فأية عيشة هذه و«الواحد ما عادش خالط على عشا ليلة؟» بطّالة, عطّالة... وبعد ؟ غالبا ما تتفاعل مسامع المعطلين عن العمل مع مصطلح «عيد الشغل» برد فعل سلبي فهو بمثابة «السبّة» أو الذكرى القادحة للأوجاع بالنسبة لأعداد هائلة من الشباب تقف في طوابير البحث عن عمل بلا جدوى . والشاب «ناجح» واحد من هؤلاء تساءل في ضيق : «حرام عليكم ! كيف تحتفلون بعيد لا ينسحب على الجميع وفي الوقت الذي يحتفل فيه العاملون «يحترق» فيه العاطلون غيضا وحسرة ؟ وأضاف قائلا: «مللت من التجول بين المكاتب والمؤسسات وكرهت شهادتي العليا «العاقر» وندمت على سنوات العمر التي أضعتها في الدراسة فلم أجن سوى البطالة والعطالة . وآفة البطالة أصبحت تؤرق العديد من العائلات وتسد جميع الآفاق أمام الشباب. وأمام تنامي الإحساس باليأس والتذمر والتشاؤم وانسداد الأفق لدى عموم العاطلين صار الإقدام على حرق الذات بعد الثورة أحد أقسى أشكال الاحتجاج على انعدام حق الشغل. فالمطلوب اليوم استراتيجية وطنية للتشغيل بدل الخطابات المغشوشة والشعارات البراقة ...» أما «منال» ففضلت البطالة ومساعدة والدها على بيع الحلوى على «الخضوع لأصناف التشغيل المستغلة لعرق العباد والمذّلة للكرامة مقابل دراهم قليلة» على حد قولها . رغم بلوغه 45 سنة فإن «مهدي» ظل عاجزا عن الزواج واتمام نصف دينه بسبب ترنحه بين البطالة الدائمة والعمل المؤقت وفي هذا السياق قال: «علاش نعرس وأنا بطال ؟ موش لازم نقلق روحي وبنت الناس... وكان الأولى بالحكومة بدل الاحتفال البروتوكولي أن تجعل من عيد الشغل مناسبة سنوية لتقليص عدد العاطلين لكن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عجزت عن إيجاد حلول ناجعة للقضاء على معضلة البطالة وزادت الحال بؤسا على بؤس». ليلى بورقعة