اتخذ رئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة يوم الجمعة الفارط لدى إشرافه على مجلس وزاري جملة من القرارات ذات البعد التقشفي تتصل أساسا بالتقليص في أجور الوزراء وكتاب الدولة بنسبة 10 بالمائة إلى جانب مساهمتهم في الاكتتاب الوطني بنفس النسبة. كما تقرر إلغاء وصولات البنزين لكبار المسؤولين وتعويضها بمنحة مالية والتقليص فيها أيضا بنسبة 10 بالمائة مع تعهد الرؤساء المديرين العامين والمديرين العامين وكبار المسؤولين بالصيانة ومعلوم الجولان وخلاص التأمين لسياراتهم الوظيفية. وبقدر ما كان لهذه القرارات خاصة المتعلق منها بإلغاء وصولات البنزين الأثر النفسي الايجابي وإشارة سياسية قوية أتاها رئيس الحكومة المؤقتة في حرصه على ترشيد نفقات الدولة وتعزيز حوكمة المصاريف والقطع مع جملة من الممارسات في ظرف اقتصادي ومالي صعب تمر به البلاد، رأى البعض أنّ هذه القرارات جاءت متسرعة ولم تصدر عن دراسة علمية وموضوعية تستند إلى مؤشرات وبيانات إحصائية وتأخذ بعين الاعتبار الآثار غير المباشرة والتداعيات السلبية لمثل هذه الإجراءات. استياء ونفور المسؤولين الثابت والمتأكد أن شريحة كبيرة تُعدَ بالمئات في صفوف الرؤساء المديرين العامين والمديرين العامين والمديرين العاديين ستعبر حتما عن امتعاضها من هذه القرارات ولن تهضمها بتاتا باعتبار أن الامتياز البارز والوحيد الذي كانوا يتمتعون به سيضمحل لا سيما أنهم لن يحصلوا من الآن فصاعدا على وصولات البنزين التي قد تتراوح بين 300 و500 لتر شهريا والتي سيتم تعويضها بمنحة مالية قد تصل إلى معدل 400 دينار شهريا حسب الرتبة والوظيفة مع إجبارية التقليص منها بنسبة 10 بالمائة. هذا القرار سوف يؤثر بالتأكيد على نفسية هؤلاء المسؤولين الذين قد يعرف مردودهم صلب المؤسسات التي يشرفون عليها تراجعا ويؤثر حتى على أداء المؤسسات والمنشآت العمومية من منطلق غياب الحافز الذي يشتغلون من اجله. مسألة أخرى وجب التطرق إليها هي أن الإجراءات المتعلقة بإلغاء وصولات البنزين وتعويضها بمنحة مالية وما اعتبروه التقليص من الامتيازات قد يدفع بالعديد من الكفاءات صلب الإدارة التونسية إلى الهجرة إلى القطاع الخاص ووضع خبرتها التي اكتسبوها في دواليب وكواليس الإدارة للعديد من العقود على ذمة المؤسسات الخاصة بما يفرغ القطاع العام من عدة إطارات لها الكفاءة والقدرات العالية في التسيير. وأفادنا مدير بإحدى الوزارات بأن هذه القرارات غير صائبة وظلمت كثيرا من المسؤولين الذين لا يتحملون مسؤولية ما تتعرض له البلاد من صعوبات اقتصادية ومالية مؤكدا أن مثل هذه الإجراءات سوف تنفر الكفاءات والخبرات التي تعج بها الإدارة التونسية وتجعلهم غير متحمسين وتحبطهم. وكشف من جهة أخرى أنه بالإمكان عدم اتخاذ مثل هذه الإجراءات ذات البعد السياسي البحت مقترحا القيام بتعديل طفيف في سعر الخبز الصغير (الباقات) بزيادة 10 مليمات فقط التي يتعمد التاجر عدم إرجاعها للحريف ملاحظا أن هذا التعديل سوف يربح صندوق الدعم ما قيمته 30 مليون دينار. وقال إن هذا المبلغ سوف يكون أرفع بكثير من الإجراءات التي تم الإعلان عنها يوم الجمعة الفارط والتي سيكون مردودها المالي هزيلا بالنسبة لميزانية الدولة. في المقابل وجب الاعتراف أن وصولات البنزين شكلت لسنوات معضلة حقيقية في مصاريف الدولة وكانت تنخر الميزانية من منطلق أن العديد من كبار المسؤولين يتحصلون على كميات هائلة من وصولات البنزين (وصلت في وقت ما إلى ما بين 500 و600 لتر شهريا) ولا يحتاجون إلى كل الكمية وهو ما يدفعهم للتفويت فيها لأشخاص آخرين بمقابل مالي وهي ممارسة يعرفها القاصي والداني. تداعيات خطيرة على شركة «عجيل» لتوزيع البترول من ضمن القرارات التي اتخذها مهدي جمعة إلغاء العمل بوصولات البنزين وتعويضها بمنحة مالية، غير أن رئيس الحكومة بهذا القرار يكون قد حكم على إحدى أهم المؤسسات الوطنية ألا وهي الشركة الوطنية لتوزيع البترول «عجيل» بالإفلاس. الكل يعلم أن شركة «عجيل» وهي شركة عمومية لها حصرية بيع المحروقات والبنزين إلى الوزارات والمنشآت العمومية عن طريق الوصولات الشهرية التي يتم إسنادها للمسؤولين بما يعني أن قيمة هذه البيوعات تصل إلى ملايين الدنانير. وعند إقرار إلغاء العمل بالوصولات وتعويضها بمنحة مالية لمئات المسؤولين الذين لهم سيارات وظيفية مع التقليص في استعمال سيارات المصلحة التي تعد بالآلاف فإن هؤلاء المسؤولين سيتعاملون مع أيّ مزوّد آخر للبنزين وبالتالي فإن شركة «عجيل» ستفقد جزءا كبيرا من رقم معاملاتها المتأتي من الإدارات. وستنعكس هذه الوضعية سلبا على الوضعية المالية للشركة التي تعاني من عجز مالي كبير جراء عدم استخلاصها مستحقاتها المالية من شركة الخطوط التونسية والعديد من المؤسسات العمومية الأخرى التي تحصل منها على المحروقات. ولعلّه من المفارقات الغريبة أن يكون رئيس الحكومة الذي لطالما تحدث عن الصعوبات المالية التي تعاني منها المؤسسات العمومية والتي بلغت خسائرها حوالي 3000 مليون دينار، المتسبب الأول في إفلاس إحدى أهم وأعرق المؤسسات العمومية وهي شركة «عجيل».