المتغيّرات السياسية قد تُفجّر التوافق من الدّاخل! هل تحوّلت المعارضة الى مجرّد «كُمبارس»؟! يكتبه: الهادي السنوسي قد يبدو ما حدث تحت قبّة مجلس نواب الشعب مفاجئا للبعض على خلفية مُجريات الجلسات الأولى وما أفضت اليه من نتائج على مستوى تشكل الجبهات، ولكنّ القراءة المتأنية لما لحق الانتخابات التشريعية والدور الأوّل من الرئاسية كانت تشير الى ارهاصات خفيّة قد تأتي بما لم يكن منتظرا. غير أن ذلك لم يمنعنا من تنسّم المتغيّرات وأشرنا الى هذا الأمر في مقال سابق حيث ذكرنا أن «فعاليات البطولة ستكون حصريّا في «ملعب» باردو»... أي أنّ المباراة الفاصلة لن تكون إلاّ تحت قبّة المجلس المنتخب. منتخب المرحلة... ما ذهبنا إليه لم يكن قراءة للغيب بقدر ما توجّه بحثنا إلى قراءة شاملة لواقعنا السياسي في ظل النتائج الحاصلة تشريعيا على وجه الخصوص. لقد عشنا على مدى الفترات الانتقالية السابقة تحرّكات عديدة وانتفاضات أدّت الى الإطاحة بحكومتي «الترويكا» الأولى والثانية ولم يقع الخروج من المأزق إلاّ بفضل «الحوار الوطني» الذي تمكّن من تقريب وجهات النظر والتوصّل إلى تكوين حكومة تكنوقراط... حدث كل ذلك نتيجة لتصلّب الحزب الأغلبي في المجلس التأسيسي الذي أراد بسط نفوذه تشريعا وتنفيذا. أمّا وقد أفضت الانتخابات الأخيرة إلى تغيير مفصلي في المعادلة بتصدّر «نداء تونس» الطليعة متبوعا بحزب «حركة النهضة» فإنّ الأمر أصبح مختلفا للتحرك في أي اتجاه كان. وحتى لا نُعيد ما سبق أن أشرنا إليه من سيناريوهات داخل المجلس نكتفي بالقول بأنّ الحزبين الأغلبيين يدركان حقّ الادراك أنّ السيطرة على المجريات السياسية في البلاد على مستوى الحكومة بصفة خاصة لا يمكن أن تتمّ بانتهاج «اللعب الفردي» وأنّهما سيسعيان إلى «انتداب» لاعبين متميّزين لتدعيم حظوظ كل طرف منهما... وهذا ما حدث فعلا حيث انضمّ كل من «آفاق تونس» و«الوطني الحرّ» لمساندة «نداء تونس»... وهذا المعطى جعل «النهضة» تتحاشى خيار المواجهة مع «النداء» في المجلس بحكم اختلال التوازن على مستوى الأصوات.. ونتيجة لذلك خيّر الطرفان الأغلبيان تغيير التكتيك وانتهاج اللّعب المشترك وبادرا بتكوين «منتخب» موحّد ليضمنا سيطرتهما المطلقة على مجريات البطولة القادمة في مختلف مفاصلها وفصولها تحت يافطة «التوافق». وهكذا وصلنا إلى الحلّ السحري الذي أصبح عماد الأساس لفضّ النزاعات والخروج من الأزمات وأعني التوافق طبعا. ولعلّه من المفيد التوقّف عند عديد النقاط التي ترتبط أساسا بهذا المفهوم السايسي الثوري. لقد تقبّل الشعب لغة التوافق التي أخرجت البلاد من أزمة حادّة وهي تخوض أولى مراحل التغيير الثوري ولكن هل أصبح التوافق ضرورة في كلّ المراحل؟ وإن كان ذلك فلمَ نُجري انتخابات ويختار نوابا؟... أسئلة عديدة تطرح وتبحث عن أجوبة... توافق المصالح... قلع لأسنان المعارضة! قد يقول بعضهم لقد جرّبنا التوافق وقبلنا به بعد أن أثبت جدواه وقت الشدّة... فلماذا لا نقبل به ونحن على أبواب مرحلة مفصليّة على درب الديمقراطيّة خاصة وقد بدت خطواتنا مرتبكة ونحن نعيش تجاوزات لفظيّة ومادية على مستوى الممارسة السياسية. إنّ ما يُقبل للضرورة يسهل قبوله بالاختيار أيضا شرط أن تتوفّر النوايا الصادقة لدى معتنقي التوافق والفاعلين في تنفيذه... فأخشى ما يخشاه البعض أن يتحوّل التوافق الى تفاهمات ظرفية ناتجة عن تقاطع للمصالح الحزبية الضيّقة للأطراف المعنية به وأن يؤدّي ذلك إلى قلع أسنان المعارضة وإسكات صوتها وتحويلها إلى مجرّد «كُمبارس» في مسرحية التوافق على ركح باردو! إنّ هذا التخوّف له ما يبرّره لأن نتائج ما حصل في المجلس قد تتحوّل إلى مأزق حقيقي في صورة حدوث شرخ في علاقات الأطراف التوافقية... فالسياسة لها مناخاتها المتغيّرة وليس بالضرورة أن تكون المتغيّرات لفائدة كل الأطراف أو أن تلقى هوى لديها... وفي تلك الحال يمكن أن ينقلب التوافق إلى تراشق وينقطع حبل الودّ الظرفي ويشتعل أوان الأزمة وينفجر العقد من الدّاخل فيعسر لمّ الحبّات المتناثرة لتدخل البلاد في نفق مجهول النهاية... فالاحترازات المعلنة من قبل العديد من الجهات تكتسي صبغة من الواقعية ولكن هل يعني ذلك أن تُبرّر كل تلك الضجّة التي أثيرت حول انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه؟! ففي قراءة أولى قد نرى في ما حدث تحالفا واضحا بين ثلاثة أو أربعة أطراف (على الأقل في هذه الفاصلة بالذّات) يتقدّمها «النّداء» و«النّهضة» وبإسناد من «الوطني الحرّ» و«آفاق تونس»... وفي قراءة معاكسة يرى بعضهم أن ما حصل يدخل أساسا في باب التكتيك السياسي وأنّ اللعب في هذا الميدان يتطلّب التأقلم مع مختلف الوضعيات والتخطيط لها وفق ما يقتضيه الوضع... فالتحالفات أو التوافقات أو ما شئتم من التوصيفات هي في صلب الأداء السياسي ولا يجب أن يُنظر إليها وكأنها جريمة في حق الديمقراطية وحقّ الناخبين الذين صوّتوا لبرامج بعينها قد تتضارب مع بعض البرامج الحزبية الأخرى. إنّ هذا الكلام جميل ومنطقي في ظاهره ولكنّه في جوهره يحمل اتهامات قاسية إذ ما كلّ تحالف مؤامرة وما كلّ اتفاق أو توافق خيانة للناخبين... فهؤلاء انتخبوا أحزابا بالدرجة الأولى وشخصيات تمثيلية بالدرجة الثانية... وهذا يعني في ما يعني أنهم فوّضوا لهم اتخاذ المواقف التي يرونها مواتية لتوجّهات أحزابهم ومصالحها وفي مقدمة كل المصالح... مصلحة الوطن العليا!... عركة... وفُركة!.. كثيرا ما يعمد بعضنا إلى إجراء مقارنات بين أوضاعنا وما يحدث في الديمقراطيات العريقة ويؤكّدون أن التوافق وسيلة استثنائية لم يقع اللجوء إليها الاّ في حالات الخطر الداهم أو في بداية المرحلة الانتقالية! أنا مع اللجوء الاستثنائي الى التوافق... فهل أنّ بلادنا لا تمرّ بظرف استثنائي بكل المقاييس الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟.. إنّنا نعيش في قلب الاستثناء وإذا لم نلجأ إلى التوافق في هذه المرحلة بالذات فإنّنا سنجد أنفسنا في عين العاصفة ولن تجدينا التنظيرات والتهويمات الحقوقية وانتحال الديمقراطية أكثر من الديمقراطية ذاتها... نفعا بل ستذهب مكتسبات الثورة على قلّتها هباء منثورا ليظلّ حلمنا مقبورا. أكرّر مرّة أخرى إن التوافق من الحلول الظرفية لمشاكل الساعة شرط ألاّ يتحوّل الى سيف على رقاب المعارضين أو أصحاب الأصوات الدّاعية بعقلانية إلى سُبل إنقاذ أخرى قد تصلح للمراحل القادمة. تحدّثت عن العقلانية لأن ما سمعناه قبل أيّام على ألسنة بعض النّواب يدعو فعلا إلى الاستغراب بل إلى الاستنكار! فقد سمعت النائبة سامية عبّو تصرخ بأعلى صوتها كعادتها الدائمة مستنكرة ما حصل في المجلس وتدعو إلى جعل القبّة فضاء للعراك الخ... هذه النائبة «المعاركية» لا تفوّت فرصة واحدة دون أن تحاول تمرير تشنّجاتها وعصبيّتها عبر المصادح والشاشات معتقدة أن الثورية تعني بالأساس الهيجان وسيلان اللّسان!.. أمّا المرأة الثانية التي أعلنت عن وجودها في «الملعب» الأكبر للسياسة فهي النائبة مباركة أرملة الشهيد محمد ابراهمي... يبدو أنّها «غلطوها» بأن قالوا لها: «أنت أرملة الشهيد ولك أن تفعلي أو تقولي ما تريدين»... وفعلا أعلنت عن نفسها بطريقة هجومية واضحة ودخلت صلب المزايدات دون وجل... فقد انتقدت بحدّة ما حدث واتّهمت «النداء» و«النهضة» بالنّفاق إلخ... النائبة المحترمة نسيت أنّها ما كانت لتضع قدما في المجلس لولا دم الشهيد... وهذا لا يعني أنها وريثة نضال الشهيد أيضا... لقد عُرف الشهيد برصانته في تناول المواضيع وبسموّ أفكاره ورجاحة تحاليله وإنّه من المؤلم حقّا أن تشوّه تلك الصورة من قبل أقرب الناس إليه... نصيحة: «تعلّمي السياسة بالسياسة... والصّوف يتباع بالرزانة».. وأختم القول... ارحموا البلاد بأيّة وسيلة كانت بالتوافق... بالتّحالف... بالتفاهم... بالتآلف... فتونس اليوم وغدا لا تُبنى إلاّ بالمحبّة والعمل الصالح... وستشكّل نتيجة الدور الثاني للرئاسية الإمتحان الأوّل ل «ديمقراطية» التوافق...