حي «بن نصر»... اسم يحيل كلّ من يسمع به لأوّل مرّة على عوالم الجاه والرفاهة والوجاهة والثراء... اسم يحيل ضرورة كل من لا يعرفه على ما يتميز به نظيره «النصر» من محلات راقية وصالونات شاي فخمة وسهريات و«شيخات» و«زهويات» وأفراح و«ليال ملاح»... وحتى إن لم يكن «بن نصر» هو «النصر» فإنه يذهب في ظنّ من يسمع به أنه «توأم» أو «شقيق» حي النّصر من الرضاعة أو ابن عمّه أو أحد «أقاربه» وأنهما ينتميان إلى ذات شجرة «النّسب». لكن الواقع يكشف أنه عدا التشابه في الأسماء ليس هناك أيّ وجه شبه بين حي النصر التابع لولاية أريانة وحيّ «بن نصر» منوبة... فالأول رمز للترف والبذخ ورغد العيش، أما الثاني فلا يرمز إلا للفقر والخصاصة وضيق الحال، وشتّان بين الثرى والثريا... شتان بين البعرة والبعير.. وشتان بين «حي النصر» و«بن نصر»، هكذا لخص سكان حي بن نصر ل«التونسية» قصتهم الطويلة مع معاناة يومية يبدو أنه لا أول لها ولا آخر. معزول عن العالم الخارجي نزلوا للتو من عربة المترو رقم 4... دسّ كل منهم رأسه داخل معطفه او قميصه حاثا الخطى نحو الحي... الهرولة أو الركض لمن استطاع إليه سبيلا هما الحل الوحيد لاجتياز الروائح النتنة والكريهة المنبعثة من المصبات العشوائية وجيف الأغنام والقطط والكلاب والجرذان الملقاة في كل مكان... الكل يهرول ولكن الطريق الطينية الوعرة تعطل الحركة وتستوجب التخفيف من السرعة بين الحين والآخر مما يضطر الجميع إلى «التعطّر» في رحلة الذهاب أو الإياب بالدخان المنبعث من فضلات الطريق المشتعلة... هناك على الجانب الآخر من الحي ، مستنقع مياه راكدة أشبه بالطريق المعبدة ... بإمكان الأطفال والشباب القفز والوثب تفاديا للحفر المليئة بالمياه الراكدة أما بالنسبة للكهول والطاعنين في السن فلا مفرّ من البلل... يقول نادر تاجر أصيل الحي إن حيهم الواقع على مقربة من المركب الجامعي بمنوبة والذي لا تفصله سوى عشرات الأمتار عن مبيت الفتيات والمطعمين الجامعيين «بات معزولا عن العالم الخارجي بشكل كلي، حيث يصعب على المترجل وخاصة في فصل الشتاء دخوله أو الخروج منه، فما بالك بالسيارات والشاحنات؟» ... يطأطئ رأسه متفرسا حذاءه قبل ان يواصل الحديث قائلا: «هنا يهترئ الحذاء الجديد منذ يومه الأول بفعل الحجارة والحصى ونتوءات الطريق الحادة كالسكاكين، فما بالك بالسيارات والعربات التي صار عبورها لهذا الطريق بمثابة المجازفة... لو كان حي بن نصر كحي النصر لما بقي هذا الطريق يوما واحدا على ما هو عليه منذ سنوات». و طالب نادر سلطات الإشراف بالتدخل العاجل والسريع لصيانة الطريق وتعبيد المسالك المتفرعة عنه وفك العزلة عن الحي «خاصة وانه يستعصي على سكان الحي في فصل الشتاء الممطر بلوغ مراكز العمل بالنسبة للعملة ومقاعد الدراسة بالنسبة للتلاميذ والطلبة». «مصبّ الجريمة» ؟ في الطريق المؤدي إلى الحي وعلى بعد أمتار قليلة من المبيت الجامعي للفتيات بمنوبة توجد بطحاء كبيرة تحولت إلى مصب فضلات عشوائي... في هذا المصب تلقى الفضلات المنزلية بأنواعها كما تلقى الأغنام والكلاب والقطط والجرذان الميتة.. بل وحتى أحيانا جثث آدميين سعيا لطمس معالم جريمة... فمنذ شهر تقريبا عثر سكان الحي في هذا المصب على جثة رضيعة ملقاة في سلة مهملات وهي مشوهة بعد أن نهشتها الكلاب،حسب شهادة بعض سكان الحي. وفي هذا الصدد، يقول الشاب سفيان إنّ «سكان الحي باتوا عرضة لشتى أنواع الأمراض بفعل الروائح الكريهة ودخان الفضلات المحروقة والبعوض وشتى أنواع الحشرات السامة التي احتلت الحي وصارت مصدر قلق وإزعاج دائمين للأهالي ربيعا،خريفا، صيفا وشتاء أيضا،حيث لم يعد وجودها يقتصر على فصل بعينه وإنما على مدار السنة»، مستغربا عدم تدخل بلدية منوبة لرفع الفضلات والمصبات العشوائية وتعويضها بحاويات حديدية كبيرة وتطهير الحي من الحشرات من خلال رش مبيد الحشرات بصفة دورية وكلما اقتضت الحاجة ذلك. «هرب من القطرة... جا تحت الميزاب» يعد حي «بن نصر» اقرب الأحياء إلى المركب الجامعي بمنوبة ولعله أيضا الازهد من حيث أسعار الإيجار،حسب اغلب المتسوغين، ورغم ذلك يفضّل غالبية الطلبة على كثرتهم بمضاعفة مصاريف الإيجار وتكبد عناء التنقل من أحياء بعيدة عن المركب الجامعي إلى مقاعد الدراسة على تسوغ محل أو شقة ب«حي بن نصر» وذلك «لافتقاره لأبسط متطلبات الحياة اليومية فلا يوجد في هذا الحي أيّة ادارة أو مرفق عمومي أو مكتب بريد أو مكتب اتصالات... لا وجود لمستوصف أو أيّة منشأة صحية كانت... لا وجود لأي مركب تجاري أو فضاء ترفيهي.. كما تنعدم المركبات الرياضية والثقافية به... حقا انه خارج التاريخ والجغرافيا ويستحيل العيش فيه»حسب كلام غالبية الطلبة الذين تحدثت إليهم «التونسية». «حنان» طالبة جامعية سنة ثالثة لغة فرنسية استغلت قرب الجامعة من حي «بن نصر» الذي اكترت فيه شقة حتى تتجنب مشاكل النقل قالت إنها تعرضت فيه إلى السرقة والتحرش والمعاكسة... لتجد نفسها في واقع مغاير لتطلعاتها وتكهناتها،حسب قولها، مضيفة: «رغم قرب المنزل الذي اكتريه من الجامعة فإن الطريق المليئة بالطين والوحل لا تقل سوءا عن مشاكل وسائل النقل... زد على ذلك ان مشكل غياب الإضاءة في طريق العودة مساء والكلاب السائبة التي تحتل الطريق يخيفانني ويجبراني على انتظار شريكتي في الكراء لنعود إلى المنزل سويا اذ يستحيل ان اقطع الطريق وحدي في مثل هذه الظروف». و تابعت حنان أن غياب المرافق الضرورية في حي «بن نصر» يجبرانها على التوجه مرتين أو ثلاث في الأسبوع على الأقل إلى المركب التجاري بالدندان أو إلى وسط العاصمة لقضاء مستلزمات المنزل من مواد تنظيف وطبخ «فمع حلول الظلام الذي يتزامن كثيرا مع نهاية الحصص المسائية تقفل الدكاكين والحوانيت أبوابها وكثيرا ما نقضي الليل بلا عشاء لأننا لم نشتر الخبز... وفي هذه الحالة إلّي حجّ حجّ... وإلّي عوّق عوّق». صلاة بلا مسجد «حتى بيوت الرحمان حرمونا منها» هكذا بدأ أيمن حديثه عن غياب المرافق الحياتية الضرورية بحي بن نصر،موضحا ان الحي رغم تعداده السكاني الكبير يفتقر لمسجد يؤمه المصلين وهو ما يضطر عددا كبيرا منهم الى قطع عشرات الكيلومترات لأداء الفريضة. و اكد ايمن ان سكان الحي جمعوا منذ أشهر تبرّعات رغم ضيق حالهم ليبنوا مسجدا يبث في النفوس راحة وطمأنينة يفتقدها الحي، الا أنه تم غلقه دون أن يعرف أحد السبب. «العدو أمامنا... والموت وراءنا» ويبدو انه كتب على سكان حي «بن نصر» أن يحيط بهم الخطر من كل حدب وصوب، إذ يحد الحي من الأمام طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر ومن الخلف سكة حديدية غير مؤمنة ولا يوجد بها أي حاجز او اشارة ضوئية تنذر بمرور القطار، وفي ذات السياق يقول الشاب زياد ان عددا من سكان الحي ودوابهم لقوا مصرعهم تحت عجلات القطار ومع ذلك لم تتدخل سلط الإشراف والمصالح البلدية لتأمين السكة وحماية الأطفال من خطر عبورها.