مازلتُ أذكر جيّدا يوم قدمناه في جريدة «التونسية» الغرّاء بأنّه الدكتور والأستاذ الجامعي والباحث في مجال الفيزياء.. وبعدها كانت المفاجأة في خانة «ربّ صدفة.. خير من ألف ميعاد» يوم التقيت الباحث لطفي السنوسي في إحدى الملتقيات الإبداعية التي تحتفي بالشعر بنادي الطاهر الحداد... جالست أستاذ الفيزياء أسأله عن البحث العلمي والقواعد الفيزيائية ففاجأني بإيقاع موسيقي يخضّب كلامه بوجه صبوح طفولي لأجد فيه الشاعر الحالم والقادم على مهل.. ظللت أتمتّع بحديثه هائما كمن رأى حلما مزعجا.. طال الكلام فكان هذا الحوار: من جاء بك من مجال البحث العلمي إلى المجال الإبداعي؟ هي حالة التوتّر الإبداعي الغامضة كغموض العقل البشري نفسه، فإبّان الثورة وجدت نفسي أمام واقع جديد وكأنّ الزمان غير الزمان والمكان غير المكان والناس غير الناس عشت من خلاله حالات نفسية مُفاجئة، فالوجع كان المحرّك للنفس والمثير للتوتّر الإبداعي لدي، والكتابة أو الإبداع عموما يخفّف الألم ويشكّله ويحوّله ممّا يعطي خلقا جديدا وجمالا وأثرا وهو ما أدّى إلى تشكّل الكلمات بطريقة معينة أعادت التوازن والانضباط للحالة النفسية لديّ. هل كانت مغامرة منك وأنت تجالس الشعراء مثلما تجالس علماء الفيزياء والكيمياء؟ فعلا هي مغامرة بكلّ المقاييس وقد كان لقائي الأوّل مع الشاعر الكبير «سوف عبيد» في رحاب نادي الشعر «أبو القاسم الشابي» حين عرضت عليه قراءة بعض نصوصي بمثابة شهادة تسجيل في جامعة غير أنّ النجاح فيها غير مضمون، جالست الشاعر سوف عبيد وثلة من شعراء تونس أمثال وهيبة قوية ومختار بن إسماعيل وعبد المجيد يوسف وأدركت بأنّ النص الإبداعي لابدّ أن يخضع لمقاييس علمية تماما كمجال البحث العلمي، فالإنتاج الشعري لا يمكنه أن يكون صناعة لفظية متصنّعة إلاّ في حالات الشعر الهابط والرديء وهنا يأتي دور المراقبة والوعي والتفكير مكمّلا وموجها للدّفقة اللغوية الشاعرية والتي تحمل في بنيتها مزيجا من الانفعالات والصور الذهنية والأفكار التي تتفاعل في شخصية الشاعر وفي مشاعره وتكوينه. ماذا يهبك الشعر؟ كفى بالشعر أنّه يحوّل الحدث الواقعيّ أو ذاك القلق الضروريّ إلى حدث شعريّ له حياته الخاصة، حتى يصبح خط الدفاع الحاسم عن إنسانيتنا المهدّدة على الدوام، ولن يكون لنا شعراء إلاّ حين تصبح نصوصهم شهادة لا نفاق فيها على هذا العالم المليء بالكمائن والأكاذيب. متى تستهويك أكثر النظريّة العلميّة أم الصّورة الشعريّة؟ تستحضرني هنا مقولة الشاعر الأنقليزي ويليام ووردسورث «الشعر خلاصة جميع المعارف»، أي أنّ الشعر هو تعبير يتسم باتساع آفاقه القادرة على احتواء جميع علوم ومدارك الإنسان، فالتفكير العلمي قادر على بلورة قدراتنا وعلى تحليل وتشخيص القضايا بعمق، ما قد يمنح الكتابة بعدها الكوني، كما أنه يحرّرنا من الإطناب في البلاغة ويفرض علينا الدقة في اختيار الكلمات، وإن كنت قد اكتسبت من تكويني العلمي الدقّة والانضباط والعمل طبقا لبرنامج وأهداف محدّدة فقد تعلمت منه أيضا أن لا حدود للخيال ولولا الخيال لما حُلّت معادلات ولا وطأت أقدام بشر الكواكب وأعماق البحار. ماذا كتبت في مجال البحث العلمي؟ مجال بحثي أساسا هو الطاقات المتجدّدة في صلب مخابر البحث بالقطب التكنولوجي ببرج السدرية، ومجموعة منشوراتي كانت تتمحور حول النّمذجة الرّقمية لمسائل ميكانيكا السوائل والتحوّل والإشعاع الحراري والتي تمّ نشرها ككلّ الأساتذة والباحثين التونسيين في مجلات عالميّة مُعترف بها إضافة إلى المشاركة في مؤتمرات عالمية في هذا المجال. وماذا كتبت في المجال الأدبي؟ في المجال الأدبي والذي أعتبر نفسي حديث العهد به تمكنت والحمد لله من نشر أوّل ديوان لي بعنوان «قصائد من سراب» عن دار المعارف، إضافة إلى النّشر الالكتروني لبعض القصائد الجديدة والتي ستكون بإذن الله مشروع ديواني الثاني، كما أنّي نشطت في مجال الكتابة الصحفية وأسهمت بمقالاتي السياسية في عدة صحف عربية وتونسية والتي ستكون موضوع كتاب سأصدره قريبا. أين تلتقي الناس، في البحث العلمي أم في الإبداع الأدبي. في الواقع أنا ألتقي الناس من خلال مشاركاتي في مشاريع البحث والتأطير داخل مراكل البحث ومخابره ومن خلال ما أنشره في الصحف وفي المواقع الالكترونية من مقالات الرأي، وفي الأمسيات والنّوادي والمنابر الإعلامية من خلال ما أقدمه من إنتاج شعري، وأشير هنا إلى أنّ الإشكال المطروح الآن هو اختلال ميزان العلاقة بين العلم والإبداع عموما والراجع بالأساس لضآلة الوزن النسبي للعلم في المجال الإبداعي من ناحية، أو لعدم تشاكل العلم والثقافة بالمعنى الخاص في منظومة واضحة قد تكون في المستقبل مجال تفكير ودراسة معمّقة لدى روّاد الثقافة والعلوم. هل الناس اليوم محتاجون إلى الشعر وهم مشتاقون إلى الشغل والخبز والمسكن؟ الشعر باختصار هو رقي أو لا يكون، وهو أحد معالم تطوّر الفكر البشري حيث أن المبدع عموما هو الأقدر على التعبير عن أدق عواطف البشر ومعاناتهم، والوصول إلى أعماق النفوس وخباياها من خلال التعبير عنها وعن عوالمها وتصوّراتها وخيالاتها، وقد عشنا حتى في أحلك فترات الدكتاتورية على أصوات الشعراء المنادين بالعدالة والحرية والكرامة وكانوا أحسن سفراء لهذه الشعوب الرازخة تحت نير الاستبداد وتلك التي تعاني الأمرّين من اغتصاب الفئات المستبدة لحقوقها، هذه الشعوب وجدت في شعر الشابي والقباني ودرويش متنفسا لقهرهم وغضبهم وليس أدل على ذلك من كلمات الشابي «إذا الشعب يوما أراد الحياة» التي كانت راية وشعارا لثورة الشعوب وانعتاقها. هل للشاعر الحق بأن يدلف مجال السياسة؟ إنّ أبرز مشكلة في وطننا العربي هي المشكلة السياسية، ولا يشك أحد في أن المواجهة تدور بين الشعر والسياسة في دائرة الصراع الأكبر، بين الثقافة والسياسة، وفي جميع العصور سعت السياسة إلى التحكم والسيطرة على الثقافة لجعلها أداة للأغراض السياسية ولطالما اكتوت شعوبنا بالأعمال السياسية وذاقت العذاب والمرارة من السياسة، والشاعر في نهاية المطاف هو مواطن يتأثر بالسياسة ويتألم للأحداث المؤلمة في البلدان العربية ويبكي على من مات في سبيل الحريّة ولقمة العيش، لأجل ذلك اتّسع الجانب السياسي في الشعر والأدب وكان لزاما على الشعراء أن يكون لهم دور واضح في الساحة السياسية في هذه المرحلة بالذات. كيف ذلك؟ منذ القدم كان للشعر مكانة مميّزة بين العرب وكان الشعراء هم ألسنة قبائلهم وذوي الرأي فيهم، يندبونهم عند الملمات ويستعينون بهم وقت الشدائد ويلجؤون إليهم في الحروب، لم يكن الشاعر مجرّد قارئ يتلو من أبياته على الناس ويمضي، فالشاعر والمفكر والأديب دوره الطبيعي في رأيي هو السعي لاكتساب كلّ آليات التأثير في القرار السياسي دون أن يكون الكرسي السياسي هو هاجسه اليومي أو محور تحركاته ودون أن يكون له تأثير مباشر على مواقفه تجاه شعبه ولا يعني هذا بالضرورة الزهد في المناصب بدعوى الاستقلالية، أنا لا أؤمن بأن هناك شاعرا محايدا أو مستقلّا. ماذا يعيب المبدع على السياسي؟ لا شك أنّ العمل السياسي يفقد معناه إذا غابت بصمة المثقف فيه، حيث أنّ الثقافة تظل الضمانة لطهر السياسة وعفتها. وإذا ما حصلت القطيعة بين السياسة وأصلها الثقافي والفكري والأخلاقي، فسيسقط السياسي وجوبا في مستنقع النفع الذاتي والاقتصار على خدمة الأجندة الإيديولوجية الحزبية لديه، خاصة إذا كانت عقلية السياسي رهينة لما تقرّره القيادة الحزبية، ومُنْصَاعَة لظرية القطيع، إن أكبر ذنوب سياسة العصر وخصوصا بعد ما يشهده وطننا من تحولات في الخارطة السياسية الإقليمية هو الارتجالية غير محدّدة المعالم يتصارع فيها الجميع ضد الجميع، كما أنها موسومة بالجمود ويسودها تكرار البرامج واجترارها وفقدان الإبداع والجرأة على التجديد. إنّها سياسة َحرْق السفينة حتى لا يمرّوا على من فوقهم، وكل ما أصاب الواقع السياسي من عبث «إنها سياسة استفحلت فيها ظاهرة «الكلام الكبير» وكأنّنا نتجه نحو بناء حضارة كلامية أو بالتحديد «حضارة ميكروفونية» في المواقف وفساد في التوجهات والرّؤى سببه الأساسي هو غياب المثقف عن المشهد السياسي.