المؤشّرات بدأت تتراكم لتؤكّد أن تونس على الطريق الصحيح كتبت منذ نحو العامين على أعمدة صحيفة مقالا عنونته «هل دقّت ساعة إعادة تفكيك زمن بن علي» وأعتقد أنّ هذا السؤال يعاودني اليوم بضغط أشدّ يصل حدّ التحرّش. ومأتى هذا التحرّش إحساس ينتابني بأن نجاح المرحلة الجديدة التي تخوضها تونس اليوم مثقلة بالتحديات وخالية اليدين إلاّ من الأمل والحنين الجارف إلى الابتسامة والحبّ.. هو بمثابة الواجب الوطني المقدّس. لطالما اعتقدت أن 14 جانفي كان بمثابة خلل ابستيمولوجي وشرخ عميق في الذاكرة نشأ عن اندفاع محموم إما لجهل أو غباء أو تخطيط أو نهم أعمى للسلطة والاستثراء.. اندفاع ركب صهوة القطع مع الماضي بكل ما ومن فيه.. وكأنّنا أمّة خُلقت لتوّها. فوضى خلاّقة تلك «الفوضى الخلاّقة» أدّت إلى تحويل وجهة الجهد الوطني بشكل أصابه بالقصور والوهن وجعلنا نلف وندور في ذات الحلقة المفرغة ونغرق في العكاظيات ومسائل عقيمة هي بمثابة الخوض في جنس الملائكة.. أو أسبقية الدجاجة أم البيضة؟ وفيما حسمت هذه الأمة ثوابتها منذ الأزل وجذرها في العصر الحديث مشروع خير الدين باشا القائم على الجمع بين عمق الغرب والشرق.. جعلتنا تلك الفوضى نعيش غير الزّمان ونتطارح أسئلة هجينة عن واقعنا هي أشبه بتلك التي آلت إليها صدمة العرب إبّان غزوة «بونابارت» لمصر المحروسة بدايات القرن التاسع عشر.. من نحن؟ وكيف نتقدّم؟.. أسئلة مازال العرب يبحثون لها عن اجابات إلى اليوم... فيما «الشفرة» قابعة هنا.. في تونس. عالم خاص ؟ ويبدو جليّا اليوم أنّ «تحويل الوجهة» ذاك كان في حيز هام منه أداة ارتكاز لمشروع مجتمعي هجين قفز على الثوابت والمكتسبات وتوقّف عنوة عند الهدم دون إيجاد البدائل ليخلق عالمه الخاص به ودويلته غير النظامية والتي كادت تؤول إلى افتكاك أدوار أساسية للدولة مثل «الأمن» و«تجميع الجباية أو الأتاوات».. لولا رياح التغيير التي دفع بها «الصندوق» بعد أن كان قد حرّكها ذات صيف «زلزال» على الصعيد الإقليمي. وعلى خلفية أنّ تحديد الوجهة لن يكون صائبا ما لم يتم التوفّق في تحديد نقطة الانطلاق فإن زحزحة أوضاع الحاضر والتأسيس للمستقبل يحتاجان بالضرورة إلى إعادة تفكيك الماضي برمته. قراءتان ؟ لقد حقّقت البلاد على مدى عقدين من الزمن نسبة نموّ محترمة لم «تردعها» أعتى الأزمات العالمية كما امتلكت موازنات صلبة حيث كانت نسب التضخّم والعجز في حدود المعايير التي يفرضها الاتحاد الأوروبي للانضمام إلى منطقة الأورو.. فيما حصلت تغييرات هيكلية في النسيج الاقتصادي يختزلها بالخصوص ارتقاء قطاعات متطوّرة مثل الصناعات الميكانيكية والالكترونية والكهربائية إلى قمة هرم التصدير والاستثمار.. كما حقّقت تونس فائضا هيكليا في علاقاتها التجارية مع أقوى الدول ومنها فرنسا. تلك النتائج تتحمّل قراءتين في الآن نفسه.. فهي بمثابة «المعجزة» في ظل عديد الأمراض المزمنة ومنها الاختلال في منظومة الحقوق والواجبات والفهم المغلوط للكثير من الحقوق مثل حقّ الشغل وهو ما أدّى إلى «غياب العدالة» في خلق الثروة أي استنزاف طاقات «القاطرة» مقابل خمول كثير من العربات التي تآكلت بفعل الصدإ وشتّى أصناف الأدران التي تعشّش في العقول. في المقابل يمكن القول إنّ تلك المكاسب كانت دون الإمكانيات الحقيقية للبلاد.. إذ طالما اعتقدت أنّ سنغافورة شرقا أو فنلندا شمالا على مرمى بصر من تونس.. بمعنى آخر كان بالإمكان حتى مضاعفة نسبة النمو لو اشترك التونسيون في الجهد الوطني بذات المقدار ولو تم الحسم في ثلاثة أسئلة حاسمة ذات أبعاد حضارية وثقافية وتنموية هي: أين يقف الدّين؟ وأيّ حدود للتمفصل بين الاقتصادي والاجتماعي من جهة والعام والخاص من جهة ثانية؟ الخطاب الشعبوي ويبدو جليّا أن عدم الحسم في تلك الأسئلة نشأ عن عدم تخلّص الدولة ومكونات المجتمع من بقايا الخطاب الشعبوي الذي كان مبرّرا إبّان الدّور البيداغوجي للدولة زمن الزعيم بورقيبة وهو ما خلق مخاوف من الإصلاح في وقت كانت فيه البلاد تحتاج إلى تعميق الإصلاح في كلّ شيء والمراهنة الفعلية على الانفتاح انسجاما مع خيار الاندماج في الاقتصاد المعولم الذي يتلاءم مع إمكانيات تونس التي تستمد أغلب ثرواتها من وراء البحار والتي كانت ضمن البلدان المؤسسة لمنظمة التجارة العالمية وكذلك أوّل بلد من الجنوب يرسي منطقة تبادل حرّ مع الاتحاد الأوروبي. وأعتقد جازما أنّه لو تمّ استئصال الخطاب الشعبوي لتفتّقت طاقات الإبداع الخامدة في كلّ الميادين وتغيّر المشهد برمته عبر وضع حدّ لنزيف التواكل والاحتماء بالمظلات الاجتماعية مقابل توفير مناخ مُجز للإبداع والتجديد والجهد وذلك عبر تراجع الدولة بضعة أمتار إلى الوراء و«توريط» روافد نحت الشخصية الوطنية وفي مقدمتها الإعلام ومكوّنات المجتمع السياسي والمدني في صياغة مجتمع عقلاني يؤمن فعلا بأنّ له مقعدا ضمن «الكبار». عملية تونسية لجدار برلين بالمحصلة زحزحة الأوضاع الراهنة تقتضي إعادة ترميم الجسور بين الحاضر والماضي عبر استعادة الدولة أولا ثمّ إطلاق العنان لنبض الإصلاح الذي يكاد يختنق تحت وطأة «انفجار» الفكر الشعبوي على مدى السنوات الأربع الأخيرة.. بمعنى آخر إنّ تونس تحتاج اليوم إلى وقف نزيف الجنون والاندفاع المحموم للهيمنة الذي بدأ بُعيد أحداث 14 جانفي وكان بمثابة عملية «تونسة لجدار برلين» عبر تقسيم البلاد إلى قديم وجديد وهو ما جعل الجهد الوطني يتدحرج إلى أدنى مستوياته ليسبّب استنزافا لمدخّرات الماضي مقابل تنامي «التسوّل» في الخارج لإسكات البطون الخاوية والجيوب المرهقة بما في ذلك خزائن الدولة. وأعتقد جازما أنه رغم كلّ المصائب التي نزلت على هذا البلد في السنوات الأخيرة فإنه بإمكانه أن يمخر عباب البحر من جديد باحثا عن مكان أفضل للأجيال الجديدة شريطة أن تستعيد «الدولة» حضورها القويّ وإقناعها بما يتطلّبه ذلك من كفاءات وتشبّع بمفهوم الدولة تمهيدا لتحقيق انطلاقة حقيقية تزال معها كلّ القيود أمام الخلق والإبداع.. توجه يبدو أنّ ملامحه بدأت تتراكم لتؤكّد أن الحاكم الجديد يسير على الطريق الصحيح رغم قوى الجذب المتناثرة بين الأرض والسماء.