حملة «وينو البترول».. لماذا الآن بالذات؟ بين «الارتهان للخارج» و«تدهور القدرة الشرائية» كيف ستمر الحكومة؟ بت أخشى لقاء عدد من أعضاء الحكومة الحالية خشية أن أفقد بقايا الأمل القوي الذي كان ومازال يحدوني في أن هذا البلد قادر على قلب الأوضاع وإيقاف مسار الارتداد إلى التخلف المتواصل دون توقف من نحو أربع سنوات. بعضهم يصدح اليوم بانطباع غريب وهو أن «نداء تونس» مجرد ديكور لمنظومة الترويكا التي مازالت متربعة على عرش الدولة وتحتفظ بأهم المواقع المؤثرة في شرايين الكيان الأعظم. بل لعل أغرب ما صادفت في حياتي ملامح الكآبة واليأس والخوف التي بدت على ملامح أحد أعضاء حكومة الصيد وهو يسرد تفاصيل واقعة غريبة قد تكون الأولى من نوعها وطنيا وإقليميا ودوليا. محدثي اكتشفت أن رئيس الديوان الذي يفترض أن يكون أمين سره ويشتغل تحت إمرته قام بسحب وثيقة خلسة من رئاسة الحكومة تتعلق بتعيين مسؤول على رأس أحد هياكل الوزارة. هكذا تم الأمر بكل بساطة لأن رئيس الديوان المحترم المحسوب على حزب المؤتمر يحظى بحماية أبناء ملته الذين يسيطرون على دائرة الشؤون القانونية في القصبة.. ويعطلون لعدة أشهر كل القرارات والتعيينات التي لا تنسجم مع رؤاهم فيما ينجزون مهاما أخرى بسرعة الصوت اذا كانت على المقاس. حكم افتراضي أحد أعضاء الحكومة الحالية قال إن نصيب الترويكا من المواقع الحساسة صلب هرم الدولة بنحو 70 ٪ ليخلص إلى استنتاج مفاده أن «نداء تونس» ليس سوى حزب حاكم افتراضي. وبقطع النظر عن التفاصيل فإن عددًا من أعضاء الحكومة يشعرون اليوم أنهم بلا سند وفي مواجهة وابل من الرصاص من كلّ حدب وصوب يغتال أية محاولة للإصلاح وإخراج الملفات الحارقة من «غرفة الانعاش» بما يجعل المهمة شبه المستحيلة لحكومة الصيد أكثر استحالة. وعلى الضفة المقابلة تكتوي اليوم قواعد نداء تونس بأتون الحيرة بل إن بعضهم اضطر الى غلق مقر الحزب بسبب توقف الدعم والتأطير من قيادات الحركة فيما اللاعب الثاني في معادلة الاستقطاب الثنائي آخذ في التوسع اللوجستي بشكل ربما غير مسبوق في مختلف أنحاء البلاد. ترميم يأتي ذلك في وقت تحتاج فيه الحكومة والبلاد أكثر من أي وقت مضى إلى عودة التأطير الحزبي الحقيقي على الميدان بما يتلاءم مع الدور الأول الموكول للأحزاب صلب الدستور وينسجم مع الثوابت التقدمية للمجتمع وبما يؤول الى ترميم العلاقة بين السياسي والمواطن ومكونات السلطة المحلية.. تلك العلاقة التي ضربت في الصميم على مدى الرباعية الأخيرة لتصنع فراغا يلقي بتداعياته الخطيرة على الأصعدة الأمنية والاقتصاد ية والاجتماعية وسائر مكونات محيط العيش. بالمحصلة إن خليطا من الأنانية وحسابات الهيمنة وبعضها مادي بالأساس بدأت تخرج الحزب الحاكم في صورة كئيبة مفادها أنه خذل الحكومة والبلاد عندما انغمس في صراعات الأجنحة تاركا مجالات واسعة للفصل والتأثير في الأوضاع لأطراف أخرى يبدو اليوم جليا أنها في حالة استنفار قد تصل أهدافها الى إسقاط الحكومة بالضربة القاضية في الشارع وربما الدفع نحو سيناريو مماثل للحراك الذي تزعمه الندائيون في باردو صائفة 2013. بين المطرقة والسندان بمعنى آخر إن زخما من الأحداث التي عرفتها البلاد في الآونة الأخيرة تؤشر لوجود (منحى) نحو إرباك موارد الدولة مقابل زيادة نفقاتها بشكل يدفعها إما الى الاقتراض المجحف من أسواق المال العالمية أو فرض زيادات مشطة في التعريفات العمومية بما يعطي الحجة لتجييش محتمل للشارع إما تحت عنوان «ارتهان البلاد للخارج» أو «تدهور القدرة الشرائية»! والواضح في هذا الصدد أن البلاد تقف اليوم على مشارف أزمة خطيرة في المالية العمومية طبقا للارتباك الحاصل في قطاعات حيوية مثل الفسفاط والمحروقات وتأثيره على موارد الدولة مقابل الانتفاخ الحاصل والمحتمل للنفقات في خضم تحول المرفق العام الى «حضيرة اضرابات» بل إن الأخطر من ذلك انتقال عدوى الاضرابات إلى الخاص، إلى جانب تواتر مظاهر «التشويش» ستؤول الى تعميق الضبابية بشكل يزيد في فرملة كلّ من الاستثمار والاستقرار اللّذان يمثلان المحرّك الأساسي للنمو وأهم روافد ميزانية الدولة. حملة متعددة الأبعاد وقد تكون تلك الأطراف المتربصة بالحاكم الجديد قد كشرت عن أنيابها بشكل أكثر وضوحا عبر إطلاق حملة «وينو البترول» التي زادت في تأزيم الأوضاع على أكثر من صعيد وزيادة تضييق الخناق على حكومة الصيد عبر ضرب أهم مكامن النمو بدءا بالسوق الجزائرية، والواضح في هذا الصدد أنه عقب خسارة تونس لحيز كبير من مصالحها الاقتصادية والتجارية مع ليبيا فإن المتنفس المتبقي هو السوق الجزائرية بمكوناتها التجارية والسياسية الذي قد يزيد ضيقا بفعل تداعيات وجود قناعة رسمية لدى الجزائريين بأن تلك الحملة تهدف الى تأجيج الاحتقان الاجتماعي وبالتالي ضرب أركان الاستقرار في هذا البلد الشقيق الذي لم يعد خافيا أنه المستهدف الأول من رؤى غربية وصهيونية بشأن مستقبل الخارطة المغاربية؟ بل إن تلك القناعة وردود الافعال الناشئة عنها بدأت تلقي بظلالها على حجم النشاط التجاري المنظم بين تونس والجزائر والذي لا يستبعد أن يعرف تراجعا ملحوظا هذا العام. استنزاف حملة «وينو البترول» صنعت أيضا بؤرة توتر في الجنوب زادت في تهميش الحكومة وضرب موازنات الدولة كما يبدو جليا أنها تنضاف إلى أحداث أخرى سابقة تهدف الى إحراج واستنزاف المؤسسة الأمنية. بل إن الأخطر من ذلك أن تداعيات تلك الحملة بدت امتدادا لمسار ابتزاز بدأ مع الانتخابات الأخيرة وركب صهوة التهديد بتقسيم البلاد إلى شمال وجنوب والذي قد يكون طورا متقدما في منحى الضرب المدرج الذي لقيته أركان الوحدة الوطنية خاصة من حزيب الرئاسة إبان حكم «الترويكا». دعم لوجستي والأهم من ذلك ضخامة الدعم اللوجستي الذي حظيت به حملة «وينو البترول» التي اشتغل عليها نحو 1600 «فايسبوكر» وهو ما جعل أحد أعضاء الحكومة يرجح أن تكون وراءها دولة برمتها نظرا للتمويلات الطائلة التي تطلبتها هذه الحملة والدقة غير المعتادة في إدارتها. كما فهم من هذه الحملة أنها دعوة صريحة الى تأجيج الاضرابات عبر ايهام الرأي العام بأن الدولة تملك أموالا طائلة متأتية من النفط فيما تعلم كل النخب بسائر ألوانها أن حجم الانتاج لا يغطي سوى 60 ٪ من حاجيات البلاد وأنه عرف تراجعا خطيرا بفعل الانفلاتات الاجتماعية ومجالات شيطنة ملف الطاقة خلال السنوات الأخيرة وهو ما يجعل حجم الاستثمار في مجال التنقيب عن المحروقات يتراجع الى نحو 3 آبار فحسب في السنة مقابل 14 بئرا خلال العشرية الأولى من هذا القرن. ابتزاز وقد تكون التداعيات الخطيرة لحملة «وينو البترول» بالتزامن مع الانفجار الغريب للاضرابات والانفلاتات بسائر أشكالها هي التي دفعت رئيس الحكومة الحبيب الصيد لأن يستعمل عبارة «ابتزاز» أمام نواب الشعب لأول مرة دون أن يصدح أن مرامي الابتزاز ومن يقف وراءه وبشكل قد يكون عمق استنتاجات سابقة بأن من أهم أسباب صورة الفشل التي بدأت تلتصق بالحكومة هو صمتها وكآبة آلياتها الاتصالية مقابل جرأة واندفاع خصومها والمتربصين بها وبعضهم يتموقع داخل أروقتها. انتكاسة الحداثة بالمحصلة إن الحاصل في تونس بدأ يعمق الضبابية داخليّا والتوجّس خارجيا ولا سيما لدى دول الجوار ومصر وأغلب مكونات الخليج العربي التي ترى في امكانية انتكاسة الحداثة في تونس خطرا جسيما على أمنها القومي وهو ما قد يلقي بظلاله على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس ويؤدي الى تسريع مسار الوصول الى وضع مماثل لأزمة اليونان يؤول الى تسريح جحافل من العمال والتقليص في الأجور. وفي ما تبدو تلك الصورة موغلة في القتامة مازال يحدوني أمل في حصول انفراج قريب قد تجود به رحمة السماء ويوقف مغص الأمعاء وتمزق الضلوع الناشئ عن تعاظم المخاوف من أن البلاد واقعة تحت تأثير بوادر شكل جديد للاستعمار قد يضع تضحيات ستة عقود في كف عفريت.