التونسية (تونس) قد تكون التطوّرات الساخنة التي شهدتها البلاد على امتداد الأيّام الأخيرة أشرت لعودة الصراع على أشدّه بين مشروع الحداثة ودولة القانون والمؤسّسات ومشروع الدولة غير النظامية؟ وأكاد أجزم أن جوهر هذا الصراع سيحسمه شكل الحسم في الأزمة الدائرة في قطاع التعليم والتي تحوّلت منطلقاتها فجأة من المطالبة بتحسين أوضاع المعلّمين إلى الدّعوة الصريحة لإقالة وزير التربية ناجي جلول أيّاما قليلة بعد أن كتب أحدهم على الشبكة الاجتماعية «سنعود غزاة إلى وزارة التربية». هرسلة وقد تكون تلك الأزمة التي زادت في هرسلة التلاميذ والأولياء المتواصلة بدون انقطاع منذ عدة أشهر عمّقت استنتاجات سابقة بأن حيزا هاما من الموقف النقابي واقع تحت تأثير حالة الاستنفار التي قد تكون أدركت مداها لمشروع الدولة غير النظامية ويبدو جليا أنها فتحت نيرانها على ثلاث ساحات هي الأمن والتعليم والتجارة التي يشكل التعمّق الحاصل لمسار الفعل والإصلاح صلبها تهديدا لأركان ذاك المشروع الذي لا تلائمه لا مدرسة تنير العقول ولا استعادة المؤسسة الأمنية لزمام المبادرة ولا استعادة الدولة لزمام التحكم في الأسعار بما يقتضيه ذلك أساسا من توغل داخل «المسالك السوداء». والواضح أيضا أنّ هذا المشروع يعود اليوم بذات الأدوات وهي التحالف مع ذات الجسم الذي تحول إلى ما يُسمّى «حراك شعب المواطنين» والركوب على جنون وغباء وحسابات «المقاولة» لبعض مكوّنات اليسار واستثمار حالة الوهن والتشتّت الحاصلة في كتلة الوسط إلى جانب حالة الخجل والتردّد التي وسمت تعاطي الحكومة مع ملفّ التعيينات بشكل جعل حركة «النهضة» وحليفها يحتفظان بالقسط الأكبر من «سلطة الإدارة» وهو ما حدا بأحد أعضاء الحكومة الحالية ليقول صراحة «بدأت أستنتج أنّنا حكومة «النهضة».. وأن «النداء» مجرّد ديكور». حسابات غير واضحة وقد يكون هذا الاستنتاج عمق بدوره تخمينات سابقة بأن الحسابات التي أنجبت حكومة الصيد قد ألقت بها منذ البداية في «أتون الفشل» أكثر مما أعطتها فرص النجاح في المهمة شبه المستحيلة التي ألقيت على كاهلها لجهة الوهن الذي طال أركان الدولة والأزمة الاقتصادية والمعيشية التي دفعت بها خيارات وحسابات الرباعية الأخيرة. والواضح أيضا أن تلك الحسابات قد أعطت أسبقية هامة لمشروع يعتبر الحكومة الحالية مجرّد «كيس رمل» وبدا واضحا منذ البداية أنه يسعى إلى العودة على أنقاض فشلها أو بالأحرى فشل خيارات التصويت السلبي إبان الانتخابات الأخيرة. بؤر التشويش هذا المشروع قام أساسا على تكثيف بؤر التشويش لإحباط أيّ مسعى للرفع من وتيرة الجهد الوطني يمر وجوبا عبر استعادة سلطان الدولة والقانون بشكل يزيل شبح الضبابية وكذلك عبر توظيف الفعل النقابي لإرباك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخلق الأجواء الملائمة للانفلات بكل أشكاله بشكل يدفع تدريجيا إلى ضرب كلّ مكامن النمو ودفع الدولة إلى «العجز» عبر تضخيم نفقاتها وشل مواردها. واحد من عنوانين ولا يستبعد أن يكون سيناريو إسقاط الحاكم الجديد في الشارع أضحى على مرمى بصر وأن تفعيله سيكون تحت واحد من عنوانين هما إمّا الاحتجاج على الارتهان إلى الخارج بعد مجازفة الحكومة بالخروج إلى أسواق المال لسد الحاجيات الإضافية في نفقات التصرّف العاجلة أو التنديد بتدهور القدرة الشرائية إثر زيادة مشطة في الأسعار أو إصلاح اقتصادي في العمق أو عقب حدث يستهدف أمن البلاد لا يستبعد أن تكون تداعيات حملة «وينو البترول؟» إحدى أدواته اللوجستية؟ الفرصة الضائعة والواضح في هذا الصدد أنّ رئيس الحكومة الحبيب الصّيد قد فوّت فرصة ربما تكون الأخيرة لإحباط هذا المسعى عندما لم يفعّل سلطة القانون إزاء محرّكي تلك الحملة خصوصا أمام تداعياتها التخريبية الخطيرة التي استهدفت الوحدة الوطنية ومعطى الاستقرار كما زادت في تضييق الخناق على النسيج الاقتصادي بفعل وقعها على العلاقات التونسية الجزائرية. الحبيب الصيد الذي اكتفى بشعار «لا أحد فوق القانون» بدا كذاك اللاعب الذي عجز عن التسجيل من كرة على خطّ المرمى.. وهو الذي يعرف كما يعرف الكثير في الداخل والخارج من أجج تلك الحملة وبأموال من.. ولا سيما الرئيس السابق وحليفه الاستراتيجي والأجندات الاستعمارية الأجنبية التي تراهن عليهما وكانت سخيّة إلى أبعد حدّ في تمويل تلك الحملة التي شكّلت أيضا دعوة صريحة إلى مزيد تأجيج الإضرابات.. ما دامت الدولة تملك أموالا طائلة تُغني عن العمل والإنتاج؟ حيرة.. وبعد !؟ وقد تكون تلك التطوّرات عمّقت الحيرة التي تسكن التونسيين ويختزلها سؤال مؤرق... إلى أين تسير أوضاع البلاد..؟ ويرجح أن الإجابة على هذا السؤال سيحسمها معطى أساسي وهو لمن سيؤول السبق وأخذ المبادرة.. فإما أن تسبق «النهضة» إلى الالتحاق صراحة بالمعارضة وهي التي تحتفظ بأقدام كثيرة داخلها مقابل قدم واحدة في الحكومة لسحب البساط من تحت هذه الأخيرة.. أو أن يسبق «النداء» إلى شكل يجعله يتحمّل صراحة مسؤولية وتبعات الحكم بما يتطلّبه ذلك من سرعة في لملمة غسيله الداخلي والالتفاتة إلى دوره الوطني وحسم واضح إزاء المشاريع التي تتعارض مع كيان الدولة والثوابت التقدمية للمجتمع.. فيما تبقى «رحمة السماء» أحد السنياريوهات المطروحة أيضا وربّما إحدى إرهاصات وجع الرأس الذي تؤول إليه كل عملية غوص في أوضاع البلاد.