لماذا ترتبك بعض الأطراف إزاء عودة أجهزة الرقابة ؟ ما سرّ التقاء المصالح بين أقلية «نظامية» واستنفار آلة التخريب ؟ بقلم: فؤاد العجرودي بدأت الأوضاع الوطنية تضغط في اتجاه حصول تغيير قد يعيد البلاد إلى مدار الفعل أو يدفع بها إلى مشارف الهاوية بعد أن استنفدت مدخراتها أو تكاد على مدى أربع سنوات تعرّضت فيها أركان الكيان إلى هزّات عنيفة وحفريات عميقة. ملامح «مفترق الطرق» ذاك تبدو جلية في عقر بيت الحكومة ذاتها حيث أن تجربة المائة يوم قد تكون أظهرت بونا شاسعا في الأداء بين سائر مكوّناتها رسّخ الاعتقاد بأنّ البلاد تحتاج إلى طينة «رجال الدولة» الذين قضوا في دواليبها سنوات طويلة تحملوا خلالها أبجديات التسيير واكتسبوا معرفة واسعة ب«بنك الكفاءات» الذي تزخر به الدولة بما يجعلهم في غنى عن «السيرات الذاتية» والأهم من ذلك كله أنهم اكتسبوا روح «إدارة الأزمات» والتعايش مع الضغوطات مهما كانت حدتها وطبيعتها والاشتغال من منطلق وجوب تحقيق نتائج مهما كانت الصعوبات والعراقيل. حسن النوايا في المقابل يظهر جرد بسيط لأداء الحكومة أن الحقائب التي ولّي عليها «سياسيون» ومع استثناء وحيد تقريبا هناك في باب البنات تتخبّط في ذات حلقة العجز المفرغة وتغرق في كثير من اللخبطة التي تزيد في اهتزاز صورة الدولة فيما «الميراث الثقيل» يحتاج بالأساس إلى استعادة هيبة الدولة كمدخل لإصلاح كل الأوضاع... بما يتعارض مع اقتصار كفاءة بعض الوزراء على «حسن النوايا» بما أظهرهم في صورة «السياح» لا أكثر.. تلك الصورة التي بدأت تترسّخ قد تدفع إلى جملة من المتغيّرات في الأيّام القادمة التي لا يستبعد أن تشهد أكبر موجة للتعيينات في مختلف عتبات هرم الدولة وربما إلى أوّل تغيير في تركيبة الحكومة يتلاءم مع ما أصدح به الصيد غداة تقديم خطاب التكليف أمام نواب الشعب عندما قالها عدة مرات «هيكلة الحكومة قابلة للمراجعة». تمرّد على الخيارات السياسية بل إنّ الاتجاه الذي ستسير فيه اختيارات الحكومة بعد «مفترق الطرق» سيحدّد مصيرها أو بمعنى آخر استدامتها لجهة أن الأزمة العميقة التي ورثتها تتطلب بالضرورة حصولها على الضوء الأخضر لاستعمال الأدوات التي تراها ملائمة لإدارة الأزمة دون قيد أو شروط سوى لزوم تحقيق نتائج إيجابية تجعل الأوضاع تتحسّن تدريجيا ويلمسها المواطن في سائر شؤونه اليومية التي تحدّد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم... منذ الأزل. ولعل من أوكد تلك الأدوات التي قد تتطلبّ «التمرّد» حتى على خيارات الأحزاب المشكلة للحكومة هي المبادرة دفعة واحدة بإخراج «كفاءات الدولة» وهم بالمئات من «الثلاجة» بدل ملازمة مسار التقتير في التعيينات بما أعاد إلى الواجهة خطاب الشيطنة الذي لم يكن ليتمرّد على أكوام «الرماد» لولا التردّد الذي وسم مواقف الحكومة من هذا الشأن.. بما يعني أن الحكومة الراهنة قد فوّتت فرصة التسجيل من الدقيقة الأولى عندما لم تعلن حين تسلمها مهامها عن مراجعة شاملة للتعيينات من القمة إلى القاع.. مثلما لم تفصح عن طبيعة مهمتها شبه المستحيلة بعد أن ورثت خزائن فارغة و«دولة عرجاء» وكمّا هائلا من الألغاز والتداخل يحتاج إلى عصا موسى لغربلته. البديل المنتظر بل إنّ التفاعل مع هذا الملف وتوقيته قد يحسمان في ظرف أيام قليلة من الآن مستقبل الحكومة الناشئة لجهة بدء «الحركات الإحمائية» للبديل القديم المنتظر الذي تراهن عليه كثير من القوى والسرعة الخامسة التي أدركتها آلة الفوضى الخلاقة منذ هجمة باردو الإرهابية والآثمة بشكل يرسخ الاعتقاد أنّ أطراف عديدة هي بصدد دفع الحكومة إلى مشارف السقوط، تلك الالة قد تختلف مكوناتها ولكنها تتحرك استنادا إلى «لقاء المصالح» والخوف من استقامة فعلية للأوضاع بدأ من أحوال الدولة تسحب البساط من تحتها وهي التي استثمرت سنوات الوهن إن بتكديس الثروات أو باكتساب نفوذ سياسي جعل بعضها يقفز حتى فوق الدولة ذاتها فيما أظهرت التجربة أنها لا تملك ما تقدمه لهذا البلد سوى الشعبوية المقيتة لقاء العجز عن حلحلة أيّة قضية ولو كانت مجرّد «حُفرة» على الطريق. قفز على الدولة بل إنه قد يكون من المفيد القول إنّ بعض الخطابات ومنها التلويح المجنون بعودة «الرباعي» دون انتباه لوقع هذا الكلام على صورة الدولة وتحول قطاعات هامة من الفعل المدني إلى أداة تخريب للعام والخاص بالتزامن مع تصاعد وتيرة التهميش والتشويش بكل أشكالهما وتواتر ظهور أطراف أفلست إبان الحكم والمعارضة وتقلبت على مدى 40 عاما بين الماركسية والقومية والإسلام السياسي قد تؤشّر مجتمعة لملامح «انقلاب» على بوادر تغيير قد يترسّخ ويعيد البلاد إلى مدار الفعل والوضوح. والواضح أيضا أنّ «جدار الصدّ» الذي تشكّل في المدّة الأخيرة واستهدف بالخصوص عودة الحياة إلى أجهزة الرقابة النظامية والإدارية بما في ذلك التوجه نحو استعادة الدولة سلطتها على بيوت الله وما يحدث بداخلها بالتوازي مع عودة نبض الإصلاح في التعاطي مع القضايا الجوهرية للبلاد.. قد تكون أشرت بوضوح لحجم التحدّي الذي تواجهه البلاد ويستند إلى أنانية مفرطة هي «مالية» بالأساس... قوامها «لتذهب البلاد إلى الجحيم». اتركه يتجاوز دعه يمرّ بل إنه قد يكون آن الأوان.. واللعب صار على المكشوف القول إن درجة الحزم إزاء مقاربة «اتركه يتجاوز دعه يمر» التي استشرت على مدى الرباعية الأخيرة وتعمّقت إبّان حكم الترويكا وبعيدها ووفرت لبعض الأطراف المسكونة بنهم المال ساحة سياسية ونخبة وإدارة على المقاس.. ستحسم لا فقط مستقبل الحكومة أو الحاكم الجديد بل مصير البلاد برمته. ولعله من المفارقات في هذا الشأن ذاك اللقاء الهجين بين اشتغال آلة التخريب مختزلة أساسا في شتى أصناف الإضرابات والانفلاتات العشوائية.. والاحتجاجات على مسار عودة سلطان القانون.. وبداية تفكيك «أخطبوط» التهريب من جهة ومواقف شق لا يعرف مداه في عقر بيت الدولة ذاتها جاءت في تزامن مع تقدم مسار استعادة قوى الأمن لزمام المبادرة وقلب الأوضاع في الحرب على الإرهاب ولجم مفهوم الإفلات من العقاب تبيّن بوضوح أنّنا إزاء معركة وطنية ضد «تداعيات» «الارتشاء» الذي أدرك مداه في السنوات الأخيرة وبلغ حد استثمار المعطيات الشخصية والمتاجرة بها فيما يفترض أن تكون محصنة استنادا إلى الدستور والأعراف. سابقات في تاريخ الإعلام ذاك المنحى يختزله أيضا تواتر إيقافات الإعلاميين التي تزامن بعضها مع الجدل الدائر حول مصير عدد من المشاريع الإعلامية الجديدة والجدل الآخذ في التوسع بشأن قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين الذي كان يفترض أن يمسك العصا من الوسط على خلفية أن تحصين المعطيات المتصلة بالأمن القومي خاصة في الظرف الراهن هو مسألة مشروعة لكنها تحتاج بالتوازي مع القانون إلى أدوات «وقائية» لا تتوفّر في الوقت الراهن.. وأهمّها سرعة المعلومة الصادرة عن المرفق الرسمي والمساواة بين سائر وسائل الإعلام في إشاعتها حتى لا تضطر كلّ منها إلى البحث عن السبق بطريقتها. والواضح أنّ هذا النهج غايته «تركيع الإعلام» وإحراج السلطة معا.. أو بالأحرى استعادة سطوة أطراف خرجت من التاريخ والجغرافيا و«فوترة» تداعيات هذا الفعل على آليات النظام السابق وفي ذاك جوهر الصراع الراهن بين تيار وطني ينتصر للدولة ويدفع باتجاه تسريع نفس الإصلاح ويؤسّس لمناخ يغربل بطبعه استنادا إلى معايير الكفاءة والاستحقاق في سائر الميادين ومفاصل الحياة وتيار مسكون بهاجس الأنانية المقيتة بما في ذلك دوائر إعلامية نافذة في عقر بيت الحكومة أو برغبة قويّة في تصدير أزمات داخلية مثلما هو الشأن بالنسبة إلى لفيف من مكونات الساحة السياسية والمدنية. «لماذا انفجرت» الإضرابات بل إنّ التكثير من المشاهد الغريبة التي طفت مؤخرا مثل تعطيل آلة الإنتاج منذ أسبوعين في مؤسّسة «ميسفاط» غصبا عن أعين الأغلبية الساحقة للعمال والموقف النقابي الرسمي وقيام نقابة أساسية بوقفة احتجاجية في مؤسّسة عمومية دون أيّ مبرّر سوى الرغبة في تقاسم دفة التسيير مع الإدارة وتواتر برقيات الإضرابات بالتوازي مع مفاوضات عامة يفترض أن تكون الإطار الوحيد لبحث الزيادة في الأجور قد تدلّل على أنّ المركزية النقابية لا تتمكن من التحكم كما ينبغي في أجندات تشتغل تحت قدميها ويبدو جليا أنّها لا تستند إلى أيّ معطى نقابي. حتى لا نصل إلى شبح الجوع قد تبدو الصورة قاتمة إلى أبعد حد لكن المخاض الحاصل في الكواليس لمراجعة كثير من التعيينات بما في ذلك تركيبة النيابات الخصوصية ومنحى الانتصار إلى المتشبعين بمفهوم الدولة وبوادر التغيير الآخذة في التعمّق في مواقع عديدة منها شارعي بورقيبة وخير الدين.. إلى جانب إفصاح الحكومة ولو في الوقت بدل الضّائع بحجم «التركة» التي ورثتها وفضح كثير من مواقع الوهن ومنها الإنتاجية الهزيلة للعامل التونسي وتداعيات المطلبية المجحفة على أوضاع البلاد.. قد يكون الفرصة الأخيرة قبل حصول سيناريو مماثل لأزمة اليونان.. أو الاستنجاد برحمة السماء أو العودة إلى الانتقالي وحينها سيتأكد «شبح الجوع» !