21 «التانغو» الدموي كان كارلوس ومازال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل«شي غيفارا». ومن المؤكد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميّته ودقته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: في 29 مارس 1982 بدأ «التانغو» الدموي في فرنسا في أول يوم لانتهاء المهلة التي حددها كارلوس. كان القطار السريع منطلقا من باريس إلى تولوز بسرعة 140 كلم في الساعة وقبل وصوله إلى محطة «ليموج» «gare de limoges» بدقيقتين دوى انفجار هائل في المقصورة رقم 8 شطرها بالطول فسقط 7 قتلى و27 جريحا، وكان جاك شيراك رئيس بلدية باريس أنذاك، من ركاب تلك الرحلة وقد أسرعت مصادره بالاعلان عن نجاته فيما صرح شيراك أن لا علاقة بين وجوده والانفجار. ثمة شيء يشبه الاعجوبة حدث أنذاك وجعل كارلوس يتصل بالمنفذين طالبا أن يكونوا دقيقين أكثر في استعمال ساعات التوقيت ، هذه الأعجوبة تتخلص في توقف القطار اثر الانفجار، من دون أن يخرج عن السكة الحديدية وينقلب ثم ان الانفجار قد حصل قبل دقيقتين من الوصول إلى محطة « ليموج» التي تشهد ازدحاما معروفا، لقد نجت فرنسا حينذاك من كارثة. « ثوار الباسك» الاسبانيون أعلنوا مسؤوليتهم عن الحادث متبنين العملية ولكن السلطات الفرنسية أدركت أن بصمات كارلوس واضحة وأن فرنسا مقبلة على أمور أعظم. في منتصف أفريل كان موعد مثول ماغدالينا كوب وبرونو بريغيه أمام قاضي التحقيق وكان وزير الداخلية دوفير قد أعطى أوامره للأجهزة الأمنية الفرنسية بالمراقبة الدقيقة ووضعها في حالة استنفار قصوى حتى أن معظم محطات القطار أو المترو لم تعد تخلو من الكلاب البوليسية المدربة على اكتشاف المتفجرات وجاءتهم المفاجأة من لبنان. صبيحة ذلك اليوم قرع باب الزوجين كافالوا في بيروت وفي محلة ساقية الجنزير. نهض الزوج ويدعى «غي» تطلع عبر منظار الباب فاذا بصبيّة تحمل باقة كبرى من الورود. تذكر «غي» أن ذلك اليوم هو عيد زواجه وظن أن إحدى صديقات زوجته أحبت أن تفاجئها ففتح الباب وهو يبتسم، دخلت الزائرة وقد رسمت على وجهها ابتسامة عريضة ملقية تحية الصباح بفرنسية جيدة فوجئ «غي» عندما استلم الهدية بالزائرة تخرج مسدسا كان مخفيا تحت الباقة وأطلقت عليه النار لترديه قتيلا وكانت الزوجة كارولين قد خرجت من غرفتها للتعرف على الزائر الصباحي فأردتها الزائرة بطلقة من مسدسها وغادرت بهدوء دون احداث ضجة لقد كان المسدس مجهزا بكاتم للصوت وفق التقديرات والاّ لأيقظت الطلقتان معظم سكان المبنى. حرب صامتة ضد فرنسا وفي مختلف انحاء العالم قادها كارلوس وفق المخطط بدقة. لم يستفق الفرنسيون من ذهولهم الا ليغرقوا في ما يشبه الدوامة. كانوا يواجهون الاعصار. انفجاران استهدف أحدهما السفارة الفرنسية في « فيينا» والآخر مكاتب «شركة الخطوط الفرنسية» وقد خلف الانفجاران خسائر مادية جسيمة دون وقوع اصابات في الأرواح. لقد أراد كارلوس أن يشد أنظار فرنسا إلى مصالحها في الخارج ليدلف من الثغرات الأمنية داخل فرنسا. كان قد أعد لهم مفاجأة كبيرة وجعل توقيتها يتناسب مع بدء افتتاح الجلسات في محاكمة زوجته كوب ورفيقه بريغيه وتسديد فاتورة مترتبة عليه للمخابرات العراقية، عصفوران بحجر واحد كما قال كارلوس بعد تلك العملية. كان كارلوس قد أرسل رفيقته « مارغريت ستاديلمان» وهو اسم مستعار لكريستا مارغو فروليتش في مهمة سرية إلى يوغسلافيا حيث عادت من هناك بسيارة من طراز « أوبل» برتقالية اللون ووصلت إلى باريس وقد أبلغ كارلوس برسالة مرمزّة تقول : الوجبة جاهزة وكان الجواب:« أعتذر شخصيا وشاكرا أفضّل الدعوة على العشاء عن وجبات الغداء وفي مطعم» . كان ذلك ليلة 21 أفريل 1982 حيث توجهت سيارة الأوبل إلى شارع ماربوف يقودها شاب شرقي الملامح وتوقفت أمام مطعم «Chez Berbert» فلم يجد مكانا ليركن السيارة، نزلت الفتاة بشكل طبيعي دخلت المطعم وخرجت بصحبة أحد العاملين فيه الذي تولى ازاحة سيارة أحد الزبائن مفسحا مكانا لركون الأول ودخول الشاب مع صديقته إلى المطعم. «قنينة نبيذ أبيض وسمك نصف مشوي» قالت الفتاة للخادم. تناولت الفتاة وصديقها طعام العشاء مثل أي عاشقين وكان آخر الزبائن الذين غادروا المطعم وتواريا في أزقة باريس. هل لاحظت شيئا سألت الفتاة؟ أجابها رفيقها : كان كل شيء على ما يرام لم يبق سوى أن أعود غدا قبل افتتاح المطعم لضبط ساعة التوقيت. وفوجئ بجواب رفيقته التي كانت تخاصره:لن يعود أحدنا سنرسل الصديق الآخر ليقوم بهذه العملية الصغيرة أي تشغيل ساعة التوقيت. بهت الشاب الشرقي وسألها: لماذا أرسل من هو أقل خبرة من كلينا فأجابته : ألم تلاحظ أن بين رواد هذا المطعم بعضا ممن يحملون ملامح شرقية، أظن أنني عرفت واحدا قد أكون شاهدته في بيروت وربما يكون متعاونا مع ال د . أس . ت ان اللبنانيين متواجدون في هذا الجهاز وأكثر فرنسية من الفرنسيين فيه. وأضاف الشاب: إذا لن أنام الليلة ولم يبق لبزوغ الفجر إلا قليل من الوقت سأشغل الساعة بنفسي. صباح ذلك اليوم أي في 22 أفريل 1982 لم تكد تبدأ جلسة محاكمة كوب وبريغيه حتى دوى انفجار هائل في شارع «ماربوف» أدى إلى سقوط قتيل و63 جريحا وتدمير معظم واجهات المحلات . لقد أصاب كارلوس عصفورين بسيارة واحدة : الضغط على السلطات الفرنسية لاطلاق كوب وبريغيه وتسديد فاتورة للمخابرات العراقية. قصة هذه الفاتورة تعود إلى عام 1798 كان كارلوس يؤسس علاقات وصداقات مع بعض الشباب العرب وربطته صداقة متينة مع الصحافي في مجلة « الوطن العربي» عاصم الجندي وكانت المجلة منبرا في تلك الأيام للنظام العراقي فقد التقاه كارلوس في بغداد ومن ثم في بيروت وتوطدت الصداقة بين الاثنين إلى حد أن كارلوس لم يعد يخفي عن صديقه عاصم معظم أسرار حياته. لقد أخبره عن حقيقته وعن سيرة حياته وأهداه صورة تذكارية وقعها وكتب عليها : «إلى شاعر رائع من تمليذه شعريا . كارلوس» وجاءت المرحلة التي كانت مفصلا في حياة كارلوس حين حاولت المخابرات العراقية احتواءه وفشلت وأدخل السجن بعد موت ابنة الضابط العراقي الكردي غرقا في دجلة وقد أطلق بعد تدخل جورج حبش وفوجئ كارلوس أنه عندما نجا من قبضة المخابرات العراقية كما قال: جاء يهوذا ليسلمني إلى أعداء العالم العربي لقد اختلق حكاية المقابلات الصحافية ولم يكتف بالبوح بأسراري بل قدم صورتي الحقيقية إلى الموساد والأجهزة الغربية. لقد اعتبر كارلوس أن ما قام به عاصم الجندي كان بأمر من المخابرات العراقية ولقاء ثلاثين ألف ليرة لبنانية. كان هدفه من عملية شارع ماربوف نسف المجلة التي قدمت رأسه للعالم كما قال : والمعروف أن كارلوس لم يغفر ذلك لعاصم الذي تعرض لمحاولة اغتيال فقد أصيب برصاصة في رأسه أدت إلى فقدانه إحدى عينيه.