13 - كارثة في مطار «عنتيبي» الأوغندي كان كارلوس وما يزال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل«شي غيفارا». ومن المؤكّد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميته ودقّته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: كان ذلك الاجتماع العاصف آخر لقاء بين الأستاذ وتلميذه. فقد وجد كارلوس نفسه معزولا من مسؤوليته وفي عزلة ثورية حتى أن أصدقاءه في التنظيمات الثورية العالمية وقفوا على مسافة بعيدة منه لا سيما أن تلك التنظيمات غالبا ما كانت تستقي تمويلها من حداد الذي كان يشكل النبع الذي يغذي الجداول الثورية. أحس كارلوس بأن أمرا يدور داخل مطبخ المخابرات العراقية الهدف منه احتواؤه وتجنيده للعمل لصالحها وهذا ما كان يخشاه، فهو لم يؤمن بالخضوع للأجهزة. كان هدفه أن يكون مستقلا ويملك حريته في العمل دون الرجوع الى أحد خصوصا بعد عملية الأوبيك. لقد شعر أن عملية ابعاده من جانب حداد تحمل في بعض جوانبها خشية حداد من أن يبتلعه تلميذه بعدما بلغ درجة من الشهرة يسيل لها لعاب مختلف أجهزة المخابرات للتعاون معه وربما لتجنيده في أعمال تخدم مخططاتها. انتقل كارلوس للإقامة في فندق فيلادلفيا في قلب بغداد تاركا الفيلا التي وضعها حداد تحت تصرّفه ولم تطل اقامته لمدة أسبوع حتى أعلمه موظف الاستقبال عبر الهاتف بوصول زائر ينتظره في بهو الفندق، ولم يكن الزائر إلّا ضابطا عراقيا رفيعا في جهاز المخابرات حمل لكارلوس تحيات السلطة العراقية التي «وتقديرا لأعماله الثورية في نصرة القضية العربية حددت مكانا لاقامته بالإضافة الى تكفلها بالمصاريف التي سيحتاجها». كانت لهجة الضابط ودية للغاية، سأله كارلوس: متى أستطيع الانتقال فأجابه: ساعة تشاء ونحن نرى أن الاسراع بالأمر أفضل لأن الحراسة هناك أفضل وليست معقدة مثل الاقامة في الفنادق التي قد يرتادها أشخاص مريبون. شكره كارلوس قائلا: قريبا أكون في مسكني الجديد. استعرض كارلوس الموضوع فور مغادرة الضابط العراقي وفي ذهنه عدة علامات استفهام. فهل تراقبه الأجهزة العراقية لرصد تحركاته أم لحمايته؟ وهل سيكون مكان اقامته الجديد اقامة جبرية بقفاز الضيافة؟ بعد لقائه هذا بأسبوع انتقل كارلوس الى المسكن الجديد في إحدى ضواحي بغداد الراقية وكان مسكنه الجديد يتراوح بين القصر والقلعة. حماية مشددة حرس يتناوب دوريا، وكان كلما خرج أو دخل، ثمة حارس يؤدي له التحية العسكرية ب«خبطة» قدم مدوية. ومجددا يلتقيه الضابط العراقي الذي جاء ليطلع على أحوال كارلوس عن كثب، فشكره الأخير على اهتمام العراق به ولم يكد يكمل كلامه حتى قاطعه الضابط بدعوته على العشاء وفي منزله لأنه لا يستملح الظهور في المطاعم الفخمة. عشاء تلك الليلة في منزل الضابط الراقي كان مفصلا في حياة كارلوس الذي هام بابنة الضابط المذكور والتي كانت على وشك التخرج من الجامعة، وقد بادلته نفس الشعور. لقد سحرها الفنزويلي الأنيق بطل عملية «أوبيك».وتكثفت لقاءات كارلوس بهذا الضابط الذي أخبره بعضا من حياته فهو كردي من الموصل وتوطدت الثقة بين الرجلين. ولم تكن تلك الحميمية إلّا بداية الطعم لتجنيد كارلوس لصالح الأمن العراقي وهذا ما كان يرفضه ويخشاه في آن معا حتى أنه قال لبعض من عرفه من أصدقائه الفلسطينيين هناك جهازان لا يستطيع المناضل التعامل معهما: الكوبيون والعراقيون إنهم يريدونك أن تكون آلة بين أيديهم فقط! صديقه العراقي الجديد ينقل إليه باستمرار أخبار حداد ومن هذه الأخبار أن قيامه أي حداد بعزل كارلوس ترك الكثير من ردود الفعل داخل تنظيمه.وانعكس الأمر أيضا على علاقة حداد بالتنظيمات العالمية وقد بدأ يعاني مشاكل معها: لقد بدأت مرحلة التفلت من قبضة حداد كما ختم صديقه العراقي سائلا: لماذا لا تبدأ باحتواء هؤلاء خصوصا بقايا تنظيم «أيلول الأسود» إنني أخطط لهذا الموضوع وعلي أن أغادر الى بيروت لإجراء بعض الاتصالات. كانت الأحداث اللبنانية في أوجها لدى وصول كارلوس الى بيروت. عزف المدافع لا يهدأ. لقد كانت بيروت ترقص على أنغام القذائف والذي أثار دهشته أنه شاهد في تلك الفترة قافلة من المقاتلين ترفع أعلاما حمراء وقد كتبت على آلياتها العسكرية: مجموعة كارلوس. لقد أطربه المشهد كما روى ذات مرة لبعض أصدقائه.عاد كارلوس الى بغداد بعدما وصلته معلومات أن الجراح حداد قد أعد مخططا لعملية كبيرة. ففي 27 جوان 1976 قامت مجموعة مسلحة باختطاف طائرة «ايرباص» فرنسية وكان بين ركابها 102 من الرهائن الاسرائيليين. وكانت متوقفة في مطار أثينا في رحلة من مطار اللد إلى باريس حين اقتحمها مسلحون وسيطروا عليها وتوجهوا بها الى مطار «عنتيبي» في أوغندا، وكانت مطالب الخاطفين باطلاق 60 سجينا من سجون اسرائيل غالبيتهم من الفدائيين الفلسطينيين لقاء الافراج عن ركاب الطائرة.فجر 29 جوان شنت مجموعة كوماندوس اسرائيلية هجوما على مطار عنتيبي أدى الى مقتل الخاطفين وكانوا سبعة ومصرع ما يفوق على المائة جندي أوغندي وتدمير سلاح الجو الأوغندي من طائرات «ميغ» الروسية الصنع وقتل قائد مجموعة الكومندوس وهو شقيق رئيس الوزراء العدو الاسرائيلي الحالي بنيامين نتانياهو. ثلاثة بلغ لديهم التأثر درجة لا توصف: عيدي أمين الذي انهار لخسارته أسطوله العسكري الجوّي، وحداد الذي خطط للعملية وانتهت بكارثة، وكارلوس الذي فقد أحد أهم أصدقائه ويلفريد بوز الذي قاد العملية وقتل مع رفيقته بريغيتا كولمان. ولم يبق من «الرعيل الثوري الطيب» كما كان يسميه إلّا صديقه يوهانس فانيريتش، بعدما أعلن هانس جواشيم كلاين اعتزاله النضال المسلح بعد عملية الأوبيك وإصابته البالغة في البطن واختفائه نهائيا من المسرح خوفا من كارلوس.