28 الترابي «يبيع» كارلوس للفرنسيين كان كارلوس ومازال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل «شي غيفارا». ومن المؤكد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميّته ودقته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: نجح رجال الاستخبارات الفرنسية في التقاط صور لكارلوس في النادي الديبلوماسي وفي احدى سهرات مطعم الميريديان وابلغوا الجنرال فيليب روندوا ان الطبق اصبح جاهزا وكان روندوا قد نجح في حصر المهمة بجهازه وبفريقه الخاص وبالتنسيق مع شارل باسمو وزير الداخلية الفرنسي ولعل اللافت في الأمر أن عملية التحضير لاختطاف كارلوس بإشراف رسمي سوداني اخفي عن جهاز المخابرات الملحق بقصر الرئاسة في فرنسا. كان كارلوس قد اصبح في دائرة الرصد الدقيق وتحت اعين فريق روندوا وبالتعاون مع المخابرات السودانية وبموازاة ذلك كانت المفاوضات بين الشيخ حسن الترابي من جهة وجان شارل ماركياني الساعد الأيمن لوزير الداخلية الفرنسية وروندوا من جهة اخرى قد بدأت. كانت تلك المفاوضات طويلة تناول فيها الطرفان مجمل المواضيع الاقليمية والدولية وموضوع السودان كدولة مدرجة على جدول الارهاب وقد شرح الترابي للفرنسيين نظرته من الموقف الفرنسي تجاه الاحداث في الجزائر فهو يفضل أن يفتح النظام الجزائري صفحة جديدة مع الأصوليين الجزائريين وقد فهم المفاوضون الفرنسيون ان الترابي يبحث عن مخرج لفك العزلة عن السودان ويحبذ لو تلعب فرنسا هذا الدور وهنا فتحت الابواب واسعة امام المفاوضين الفرنسيين للدخول في صلب الموضوع وهذا ما تولاه روندوا بلباقة مخابراته واحتراف اذ قال: نحن في الخرطوم اليوم من أجل هذا الموضوع وبأمر من وزير الداخلية لأن لدى سلطاتنا الفرنسية الدلائل التي تثبت وجود كارلوس في الخرطوم وعرض روندوا صورا التقطت لكارلوس قرب منزله وفي الاندية وفي الميريديان. اعتذر الترابي معتبرا أن البحث في موضوع كارلوس شائك ولكنه سيعطي الفرنسيين جوابا سريعا. وانتظر الفرنسيون دون ان يتلقوا ردا من السودان. واتفق على لقاء آخر في باريس وقد وصلها الترابي في شهر جوان من 1994 لمتابعة المفاوضات التي بدأت في الخرطوم. جولات من المحادثات المسهبة عرض فيها الترابي حرج الموقف السوداني من تسليم كارلوس وما يترتب عليه من مضاعفات ضمن محيطه خصوصا وانه يعاني من عزلة خانقة ومن حرب اهلية تستنزف معظم قواه وبدأت الصفقة. فقد اعلن الفرنسيون وفق ما اثير انذاك عن موافقتهم على تسليم السودان صورا عن خطوظ دفاع قوات جون غارينغ كما تعهّد الفرنسيون بالسماح لقوات النظام السوادني بالمرور عبر اراضي افريقيا الوسطى لتطويق القوات الانفصالية في الجنوب اما على صعيد دعم السودان فقد تعهد وزير المال الفرنسي بتقديم ضمانات اعتماد للسودان لشراء مواد أساسية فرنسية كما وعدت باريس بأنها ستطلب من شركة «توتال» النفطية العودة إلى السودان لتنقيب عن النفط وتمت الصفقة بين باسكوا والترابي وفي شهر تموز طلبت الفرنسية من السودان تسليم كارلوس فقامت السلطات السودانية بإصدار مذكرة قبض على ايليتش راميريز سانشيز. لم يخرج الدكتور بركات وهو اسم كارلوس وفق جواز سفره الديبلوماسي المزور من منزله في شهر جويلية الاّ مرات قليلة لقد ادرك انه مراقب وأحس كمحترف أن المساحة تضيق وان حصاره يشتد وأن التفكير في مخرج اصبح من الأوليات وبالسرعة القصوى. ومما زاد في مأزقه انه كان يعاني من آلام في بطنه استدعت دخوله إلى مستشفى ابن خلدون شارع افريقيا 25 لإجراء فحوصات طبية وكان ذلك في 10 أوت حيث تبين للأطباء انه مصاب ب« فتق» صغير يحتاج إلى عملية مستعجلة وقد حدد له الطبيب صباح الاحد 14 أوت كموعد للعملية ولم يكن يدري ان هذا الموعد سيكون يوم تسليمه إلى رجال روندوا الذين تعبوا من الانتظار. ويوم 10 أوت توجه كارلوس إلى محلات « شي شدياق» واستأجر فيلمين وفي المساء اجتمع مع بعض أصدقائه في «النادي الارمن» على حفل عشاء واخبرهم أنه ينوي الخضوع لعملية بسيطة في الغد . وبعد ذلك اليوم لم ير أحد كارلوس. مراد الصديق شريك جاك فرجيس في الدفاع عن كارلوس يروي تفاصيل ما حدث في ليلة اختطافه وعلى لسان كارلوس نفسه فيقول : انه كان قد قصد مستشفى خاصا للجبهة الاسلامية لإجراء عملية جراحية بسيطة تحت حراسة 4 رجال من الأمن السوداني وأن العملية الجراحية تمت بنجاح وبعد ايام من بقائه في المستشفى تقرر خروجه وعندها ابلغه رجال الامن السودانيون ان اجهزتهم قد اكتشفت ان هناك محاولة تعدّها اطراف مشبوهة لاغتياله وقد وجدت هذه الاجهزة أنه من زاوية الحيطة والحذر ان لا يعود إلى منزله وانهم سوف ينقلونه إلى منزل آخر لحين إلقاء القبض على افراد هذه المجموعة حارصا على حياته. ويتابع كارلوس وفق محاميه الصديق: لقد حملوه إلى احدى الفيلات والتي تبدو فيها رائحة الطلاء الجديد بارزة بالاضافة انها فرشت ب« موكيت» جديد وكانت زوجته «لانا» معه. وفي المساء اصطحبها رجال الأمن لاحضار بعض الحاجات الخاصة وكان كارلوس يشعر بالتعب الشديد فغرق في النوم فأطبق عليه حراسه وقيدوه ثم قام طبيب عسكري بحقنه بإبرة مخدر وألقوا به في سيارة بعد ان قاموا بتغطية وجهه وكانت وجهتهم المطار. لدى وصولهم ادخلوه في كيس للنوم ثم ألقوا به في الطائرة وقد اكد كارلوس للصديق أنه في الطائرة لم يكن يعلم وجهته فقد جلسوا فوقه ولم يتبادل اي من في الطائرة ولو كلمة وعند هبوطها سمع احدهم يقول للآخر باللغة الفرنسية: باسكال.. هانحن قد وصلنا . ثم ازالوا القيود عن قدميه والغطاء عن وجهه ونقلوه في سيارة وجلسوا فوقه طوال الطريق حتى وصل إلى مركز المخابرات الفرنسية فرع مراقبة الإرهاب. اختطاف كارلوس من السودان كما يقول محامياه فرجيس والصديق اشعلت حربا كلامية في فرنسا وكذلك بين النظام السوداني والمعارضة. ففي حين اعلن وزير الداخلية باسكوا ان كارلوس اعلن مسؤوليته عن مقتل 83 شخصا في جميع انحاء العالم . ردّ عليه آلان جوبيه وزير الخارجية بتصريح عنيف وواضح موجه إلى وزارة الداخلية يحمل رسالة تقول انه هو أي جوبيه من يصنع السياسة الخارجية وليس وزارة الداخلية أو جهاز المخابرات ثم اردف مشددا: أنه لا تغيير في سياسة فرنسا تجاه السودان لأنها دولة تثير قلقا شديدا لدينا فهي تمثل قاعدة خلفية للإرهاب فضلا عن ان الشمال يقود حربا دموية على الجنوب. في السودان اعلن وزير الداخلية الفريق الطيب ابراهيم محمد خير ان اجهزة الأمن السودانية ألقت القبض على كارلوس وسلمته إلى فرنسا بناء على طلب الانتربول. وقد رد عليه العميد عبد العزيز خالد وهو من المنفيين السودانيين ان السودان لم يسلم كارلوس الا مقابل صفقة تثير القلق واضاف: كيف تدعي فرنسا انها تواجه التطرف الاسلامي في الجزائر وتقوم بدعم النظام السوداني. صحيفة ال«صنداي تايمز» البريطاني الاسبوعية اشارت ووفق وثائق تلقتها من المخابرات البريطانية ان السودان ترك لفرنسا حرية الاختيار بين تسليمها كارلوس أو أبو نضال وان الفرنسيين اختاروا كارلوس . جهاز ال سي اي ايه الامريكي كشف انه لاحق كارلوس طوال عشرين سنة وانه ساعد الفرنسيين في تضييق الخناق عليه. صفقة باسكوا - الترابي اصاب فيها الوزير الفرنسي اكثر من عصفور بحجر واحد فبالاضافة إلى ان الفرنسيين شعروا بالانتقام لشرفهم كما يقول المراقبون فإن هدف وزير الداخلية الفرنسي انذاك انه كان يقوي مواقعه داخل اليمين الفرنسي ليصبح رقما صعبا والاهم من ذلك تبقى رغبة باسكوا بضرب الحزب الاشتراكي ولهذا السبب بدأ باسكوا بعد اعتقال كارلوس بتسريب بعض وثائق جهاز مخابرات المانيا الشرقية « ستازي» إلى الصحافة خصوصا التقرير الذي يتحدث عن تورط المحامي فيرجيس في عمليات الارهاب اي اثناء محاكمة ماغدالينا كوب وبرونو بريغيه حيث قام فرجيس بتفجير القنبلة التي طالما انتظرها باسكوا فأعلن انه قام في ذلك الوقت بصفقة بين كارلوس والحكم الاشتراكي عبر وزير الداخلية السابق غاستون دوفير وهو صديق الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران.