30 - 3 فرسان على الحلبة كان كارلوس ومازال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل «شي غيفارا». ومن المؤكد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميّته ودقته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: اذا كان ايليتش راميريز سانشيز يقود نصف العالم ايام الحرب الباردة فقد بات وهو سجين يقود العالم بأسره وقد كانت محكمة الجنايات العليا في باريس مسرحا لثلاثة ابطال لا تنقصهم الشهرة وهم: جان لوي بروغيير قاضي ملفات الارهاب وكارلوس الذي هو نصف العالم الذي انحسر وجاك فيرجيس محامي القضايا المدوية والدقيقة والذي يلقبه الفرنسيون ب«محامي الشيطان». القاضي بروغيير اعد الملف الاتهامي في التحقيقات الأولية وقد بلغ عدد اوراق هذا الملف 11 الف كلمة لا يوجد فيها أي ذكر لكلمة ايديولوجية أو النضال بل اتهامات بعمليات تسببت في ضحايا وأضرار واصابات. يقول احد المراقبين : فرنسا أعادت عقارب التاريخ عشرين سنة إلى الوراء ولكن لماذا؟ لان محاكمة كارلوس اذا تصورها الفرنسيون انها تسديد « فاتورة شرف» فرنسية فلماذا لم يقدموا على محاكمة عملاء « الوساد» الاسرائيلي يوم استشهاد محمد بوضيا ويضيف هذا المراقب: لو لم ينحسر عالم كارلوس ووجد الفرنسيون انفسهم مرة اخرى في مواجهته الم يقوموا بمفاوضة كما فعل دوفير عبر فيرجيس. وربما هذه المحاكمة احدثت صدمة أيقظت الكثير من شعارات مرحلة سقطت قسرا. قاضي ملفات الارهاب كما يسميه الفرنسيون بروغيير قام بالتحقيق وعلى عشرات الجلسات مع كارلوس واللافت في الأمر أن بورغيير نفسه أعجب بشخصية كارلوس حتى قال ذات مرة: إنه فعلا «شاكال» (ذئب) ولعل المثير في هذه الجلسات أنها لم تخل اطلاقا من الدعابة . ففي احداها قال كارلوس لبروغيير إنه يعلم الكثير عن القضاء الفرنسي وقدم له امثله ادهشته كما يروي احد محامييه ويضيف : ان كارلوس قال لبروغيير : أنا اعرف انك ثوري مثلي ووجه اليه دعوة إلى الغداء في فندق « لوتيسيا» ليحدثه عن عملياته ومغامراته مع النساء ولكن بروغيير اعتذر بالقول سأحدد لك موعدا هذا الشهر ولكن للاستجواب.
القاضي بروغيير فرنسي كورسيكي كان يفكر في الاستقالة من الملفات الثقيلة ولكن اعتقال كارلوس جعله يصرف النظر عن الموضوع لكي يختم حياته في القضاء بأهم ملف في تاريخ العالم الحديث. فعلى الرغم من عدم إدلائه بتصريحات للإعلام فهو ينتشي عندما يتصدّر نشرات الاخبار وعناوين الصفحات الأولى في الصحف. خطا نحو الشهرة من خلال قضية اثارت الرعب في فرنسا وهي جريمة الياباني الذي قطع رأس صديقته الفرنسية وجسدها ثم التهمها عبر عدة وجبات وقد ذهب بروغيير اثناء التحقيق في هذه الجريمة إلى اليابان للتعرف على عالم ذلك القاتل. ومن الجرائم العادية خطا بروغيير خطوة واسعة نحو القضايا التي يصفها الغرب بالارهاب فهو الذي تولى التحقيق في قضية مجموعة « العمل المباشر» الفرنسية التي كانت على علاقة بكارلوس وقضية اغتيال شهبور بختيار رئيس وزراء ايران السابق وكذلك قضية « لوكربي» التي اتهمت ليبيا فيها وفرض عليها الحظر. تعرض بروغيير للتهديد اكثر من مرة ونجا من محاولة اغتيال عندما زرع له تنظيم «العمل المباشر» قنبلة على باب مسكنه وانفجرت مخلفة وراءها قتيلا والتي علق عليها بالقول: انها متاعب المهنة وظلّ منذ تلك الحادثة يستقل سيارة مصفحة ويسير ضمن مواكبة أمنية ويتسلح بمسدس « ماغنوم 357» شهره في احدى المرات في وجه سائق هدّده في مرآب احدى البنايات. والمعروف عن بروغيير عشقه للاستفزاز والتحدي فعندما ذهب إلى ليبيا بهدف التعاون مع القضاء الليبي فضل السفر على ظهر بارجة فرنسية مزودة بالمدافع وراجمات الصواريخ.
جاك فيرجيس محامي القضايا المدوية هو البطل الآخر على الحلبة، رجل صاحب تاريخ يشهد له في القانون وفي السياسة ومن ابرز الملفات التي تكلّف بها الدفاع عن جميلة بو حيرد التي تزوجها في ما بعد ودافع كذلك عن كلاوس باربي وجورج ابراهيم عبد الله ومارلون براندو وماغدالينا كوب زوجة كارلوس الأولى ورفيقها بريفييه. «محامي الشيطان» يكره الحياة المسطحة كما قال في احدى المرات. غاب 9 سنوات عن المسرح من 1970 إلى 1979 وكانت «حصته في الظل» كما قال ولا أحد يعرف لماذا وأين كان طوال تلك السنوات . انها سره الشخصي وقد قال ايضا لدى سؤاله عن هذا الاختفاء : كنت في الجانب الآخر من المرآة. فيرجيس صاحب حياة صاخبة في باريس اكتشف كما يقول ان «الفرنسي في فرنسا اقل عنصرية من فرنسي المستعرات» فهو من مواليد جزيرة « لارانيون» من أب فرنسي وأم فيتنامية. في الحرب العالمية الثانية تطوع فيرجيس في صفوف قوات فرنسا الحرة تحت قيادة الجنرال شارل ديغول وسافر إلى بريطانيا انذاك وكان من ضمن القوات التي دخلت ألمانيا المندحرة . عندما انتهت الحرب حصل على منحة دراسية تعطى للمحاربين القدامى ومن البندقية انتقل لمتابعة دراسته. انخرط في صفوف الحزب الشيوعي 11 عاما وطلقه في عام 1957 حين ارتكب الفرنسيون الاشتراكيون مذابح في الجزائر وقد ارتبط بقادة الثورة الجزائرية آنذاك وتطوع للدفاع عن المناضلة المعروفة جميلة بوحيرد التي وقعت في قبضة العدالة الفرنسية وحكم عليها بالاعدام اثناء حكم الرئيس رينيه كوتي وقد طلب فيرجيس من موكلته تقديم طلب التماس عفو من الحكومة الفرنسية وكلنها اجابته: اني ارفض ذلك فأنا من الثوار والمناضل لا يلتمس عفوا من مستعمره. يومها اضطر فيرجيس إلى التصريح للصحافة بأن جميلة بوحيرد ستعدم فأشعل حربا من البرقيات من الدول العربية ومن الفرنسيين تطالب بالعفو عنها وهذا ما حدث.
عندما انتصرت الثورة الجزائرية عينه الرئيس احمد بن بلّة انذاك مسؤولا عن العلاقات الافريقية في وزارة الخارجية الجزائرية فوجد ان تلك الحقيبة مضجرة فاستقال ليؤسس صحيفة «الثورة» والتي كان من اشهر كتابها : شي غيفارا والجنرال الفيتنامي جياب وريجيس دوبريه. أول عمل قام به فيرجيس بعد تسليم الخرطوم كارلوس مخدرا للفرنسيين اعلانه انه سيرفع دعوى قضائية على الحكومة الفرنسية وقد صرح فيرجيس ان مذكرة الانتربول بحق كارلوس انتهى مفعولها ولم تجدّد الامر الذي يبطل قانونية الايقاف أو التسليم على أساسها. ثم ان هناك طريقين قانونيين متعارف عليهما: الأول ان تقوم دولة بتسليم احد مواطينها لمحاكمته على جرم ارتكبه على اراضي دولة اخرى وفي هذه الحال تقوم وزارة خارجية البلد المعني بتقديم طلب التسلم بعد تفويض من وزارة العدل. والثاني : ان تقوم دولة بتسليم مواطن دولة أخرى إلى دولة ثالثة وما ينطبق على الحال الأولى من اجراءات قانونية ينطبق على الثانية. اما الشق الأهم الذي اعدّ فيرجيس له العدة فهو «الشكل الوصفي» للدعاوى ضد كارلوس قانونيا . فاتهامه بعمليات قتل وتخريب وما إلى ذلك لا ينسجم اطلاقا مع جوهر المسألة التي هي بحق محاكمة سياسية لعصر بكامله وليس لرجل باعتبار ان كاولوس مناضل يساري يمتلك عقيدة بلورها في صراعه مع الصهيونية ومن وراءها وبالتالي فهو «مجرم سياسي» اذا صح الوصف القانوني وقد تصرف من منطلق الفعل ورد الفعل. واشار فيرجيس في هذا الخصوص إلى ضرورة فتح ملفات العلميات الارهابية التي ارتكبها جهاز « الموساد» في فرنسا ضد المناضلين الفلسطينين في السبعينات حيث كان العنف الثوري أحد ابرز اسلحة الحرب الباردة التي استخدمها طرفا الصراع على نحو واحد وفوق الأراضي الفرنسية وغيرها من البلدان. وهنا اشار فيرجيس إلى أنّ موكله كارلوس من اسرة ثرية ولم يفعل ما فعله طمعا في الكسب المادي وأنه تصرف بما يمليه عليه ضميره كمناضل ينطلق من ايديولوجية يؤمن بها. ومن هذه الزاوية هناك كثير من الظلم يجب التصدي له لأنه من افدح الاخطاء القانونية والانسانية ان يحاكم كارلوس على اساس انه مجرم عادي. اما كارلوس ووفق ما صرح به فيرجيس : فقد اخبره انه يود ان يقدم نفسه لهيئة المحكمة بوصفه «اسير حرب» فهو يعتبر نفسه ضد العالم « الامبريالي - الصهيوني» وأنه يرى ان عملية اعتقاله من قبل السلطات السوادنية هي عملية «عسكرية امبريالية صهيونية» وعلى الرغم من عدم موافقة وكلاء الدفاع عن كارلوس على هذا الطرح والانطلاق في الدفاع على قاعدة «الجرم السياسي» فان كارلوس بدأ الاستعداد والاعداد ليترافع عن نفسه وقد اصرّ على أن يصوغ الفقرات الرئيسية للبيانات المهمة خلال المرافقة بقلمه وخط يده خصوصا أن بعض الذين عايشوه عن قرب منذ اعتقاله اكدوا ان هذا المناضل اصبح ضليعا في القانون الفرنسي وفي القانون الدولي خصوصا أنه كان سيتخصص في القانون في بداياته قبل ان يتفرغ للثورة مع العلم أن جميع رفاقه الثوريين من يوهانس فاينريتش وبرونو بريغيه وويلفريد بوز الذي سقط في عنتيبي هم جميعا من الذين تخرجوا من الجامعات محامين ولكنهم تدرّجوا في الثورة الاممية ولم يمارسوا المهنة.