29 الجمهوريون وفرصة «التّمكين لأمريكا» في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. كان الإطار الذي التقى فيه أقطاب اللّوبي الجمهوري المؤمنين بالامبراطورية الأمريكية هو مكاتب وقاعات المركز الذي أنشأه «جيمس بيكر» في «هيوستون» (عاصمة تكساس) «لاستراتيجيات البترول» و(«بيكر» لا يزال يديره حتى الآن)، ومن الملاحظ أن كاتبي التقرير الأول لهذا المركز سنة 2000 اختاروا تصديره بمقدمة لها معنى، منقولة عن نص قديم من سنة 1950 كتبه السفير الأشهر في الديبلوماسية الأمريكية «جورج كينان» يقول فيه بالنص: «إن الشعب الأمريكي يمثل 6٫3 ٪ من سكان العالم، لكنه يستهلك 60 ٪ من بترول هذا العالم، والمهمة الأولى للاستراتيجية الأمريكية تقتضي المحافظة على هذه النسبة مهما كانت ظالمة للآخرين والعمل على فرضها بكل الوسائل، دون أن تخدع نفسها بأية أوهام عن مبادىء العدل والمساواة حتى لو اضطرت في سبيل ذلك إلى استعمال قوة السلاح، لأن المبادئ تخاطب الضمائر والحقائق تصنع الحياة!» . وكانت أبرز الحقائق كما يظهر في الخطوط الاستراتيجية المطروحة للبحث في إطار مركز «بيكر» منطقا شديد التركيز: الخيار الأكفأ للولايات المتحدة هو السيطرة على صناعة البترول بكافة مراحلها). والولاياتالمتحدة لم تعد تستطيع الاعتماد كما فعلت على مصدر رئيسي هو البترول السعودي كما وقع بعد الثورة الإيرانية ومع أن السعودية تملك أكبر مخزون احتياطي محقق، إلا أن الاعتماد على البترول السعودي (مع المطالب المالية المتزايدة لأصحابه) يمكن أن تستنزفه بأسرع من أي حساب. ومع ملاحظة أن بترول العراق (وبترول بحر قزوين) كلاهما لم يصل استغلاله إلى الحد الأقصى أو قريبا منه، فإن الاستراتيجية الأمريكية تستطيع إنشاء شبكة واحدة واسعة ومأمونة لبترول الشرق الأوسط يصب فيها بترول السعودية وغيرها من دول الخليج، مضافا إليها البترول العراقي، وبترول بحر قزوين (وبترول إيران بعد تصفية نظام الثورة الإسلامية) فإن المستقبل يمكن ضمانه «أمريكيا» للولايات المتحدةوأمريكا فوق بقية العالم. وكانت البؤرة الجماعية الثالثة هي دائرة مجلس السياسة الخارجة في نيويورك وهو هيئة تساندها أكبر المصالح المالية والتجارية والإعلامية في الولاياتالمتحدة (من عائلة «روكفللر» إلى بنك الاحتياطي الأمريكي إلى بورصة الأوراق المالية في نيويورك إلى باحثين من مستوى «هنري كيسنجر» و«زيغنيو برجينسكي» وحتى «كونداليزا رايس» (مستشارة «بوش» (الابن) للأمن القومي). وكانت هذه البؤرة تولى اهتماما خاصا بالاتحاد السوفياتي (روسيا بعده) وبالصين، وبأوروبا ودولها الرئيسية مثل فرنسا وألمانيا، إلي جانب حزام الزيتون على شاطئ البحر الأبيض جنوب أوروبا (إيطالياأسبانيا اليونان). وبرغم علاقات القرب بين أوروبا وأمريكا، فإن مجلس السياسة الخارجية تولّد لديه «هاجس» «أن أوروبا هي القوة التي تستطيع أن تبدأ بتحدي التفرد الأمريكي بالنفوذ في العالم». والدواعي كثيرة: بينها أن أوروبا لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط حيث تريد الولاياتالمتحدة أن تستفرد بالسيطرة. وأوروبا تعتمد على بترول الشرق الأوسط في أكثر من 85 ٪ من استهلاكها، ومن الصعب عليها القبول باحتكار أمريكي يمسك به ويحكم القبضة عليه. وأوروبا بلدان قريبة عهد بالمجد الإمبراطوري لم تنس مكانة سابقة عاشتها ثم تخلت عنها الحظوظ فأضاعتها، ومع أنها اعترفت للولايات المتحدة بحق القيادة فإنها غير مستعدة بعد للاعتراف لها بحق التفرد. وأوروبا يسودها اعتقاد بأنها راكمت من الحكمة مخزونا يزيد في تأثيره عما راكمته أمريكا من قوة السلاح. ويظهر أن فريقا من الإدارة الجديدة في واشنطن أراح نفسه بمختصر غير مفيد عبر عنه «رامسفيلد» بقوله: «إن أوروبا قارة عجوز أرهقها الزمن (الذي تسمي عمرها فيه حكمة)، وأقعدها التردد (الذي تسمي استسلامها لضوابطه فكرا)، وعليه فإن الولاياتالمتحدة يحق لها أن تتصرف وتترك أوروبا تمارس الحكمة والفكر كما يحلو لها! وعلى خلفية هذه الساحة المزدحمة، تمكنت النخبة الإمبراطورية داخل الحزب الجمهوري وحوله من وضع مسودة أولى شبه كاملة للمشروع الإمبراطوري ومعها تحديد إطار لتوجهاته وحركته. كان واضع المسودة الأولى فريق عمل محدود ومتحمس يضم (طبقا لتحقيق قام عليه «روبرت نوفاك» أحد أشهر وأكفإ الصحفيين الأمريكيين) كلا من: «ريتشارد تشينى» (نائب الرئيس) و«دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع) و«ريتشارد بيرل» (مدير الخطط الاستراتيجية لمجلس الدفاع القومي) و«بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع) و«دوج فايث» (وكيل وزارة الدفاع) و«جيمس وولسى» (رئيس المخابرات المركزية سابقا) و«ريتشارد أرميتاج» (نائب وزير الخارجية) و«فرانك كارلوتشي» (وزير الدفاع سابقا). وقد تولت السكرتارية العامة لفريق العمل السيدة «كونداليزا رايس» (مستشارة الرئيس للأمن القومى الآن). وكان إعداد هذه المسودة الأولى (وفق تحقيق «نوفاك» وآخرين غيره) قد انتقل ابتداء من صيف سنة 1997 أي مع اقتراب (موسم الحملات الانتخابية) من مركز «جيمس بيكر» لدراسات البترول في «هيوستون» (عاصمة تكساس) إلى البيت الصيفى للرئيس «جورج بوش» (الأب) «كينيبنكبورت» على شاطىء ولاية «ماين». والداعي أن الرئيس «جورج بوش» (الأب) أصبح الراعي والحامي لهذه الجماعات بداعي جملة من الملابسات: فهو نائب الرئيس «ريغن» الذي كسر إمبراطورية الشر السوفياتي. وهو الرئيس الذي قاد الخطوة الافتتاحية الرئيسية في المشروع ببناء تحالف حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت. وهو أيضا السياسي الذي يملك خبرة متشعبّة، فقد شغل «بوش» (الأب) عدة مناصب عليا: مديرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وسفيرا للولايات المتحدة في الصين، وبعدها نائبا لرئيس الولاياتالمتحدة، ثم إنه بالمولد والأصل من أسرة بنت ثروتها وراكمتها من صناعة البترول، وبالتالي فإن خبرته وافية ومعرفته مباشرة واصلة إلى النواحي التي يمكن أن يتحرك فيها المشروع الإمبراطوري. علاوة على ذلك فإن «جورج بوش» (الأب) هو الذي أنشأ في البيت الأبيض مجموعة إدارة الانتشار الإمبراطوري بعد حرب الخليج الثانية، وكان أمله أن يستكمل المشروع في رئاسته الثانية، ثم إنه مثل غيره من أركان إدارته خرج من منصبه الرئاسي، ولم يخرج من مشروعه الإمبراطوري، وهو يستطيع أن يواصل خدمة المشروع بالرعاية والحماية. وأخيرا فإن «جورج بوش» رجل غني راكمت أسرته ثروة طائلة من صناعة البترول في تكساس، وقد عززت الأسرة هذه الثروة بعلاقات في العالم العربي توثقت أواصرها واتسعت تعاملاتها بعد حرب الخليج الثانية، وهذا الغنى وما يحيط به يساعده ويكاد يدفعه دفعا إلى أداء دور الراعي والحامي لمشروع الإمبراطورية. وقضى «فريق العمل» سنة كاملة في بيت «جورج بوش» (الأب) يجدد خطّة المشروع، ومرة ثانية تم تجهيز تقرير نهائي وقّعه أيضا! «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الآن)، وهو في الحقيقة خلاصة جهد مشترك لكثيرين، وكانت الخطوط الرئيسية محددة وأحيانا بالتفصيل: 1 الحزب الجمهوري لابدّ له أن «يمسك» من جديد (Recapture) موقع رئاسة الولاياتالمتحدة مرة أخرى، لأنه الحزب المهيأ لمهام الزمن القادم، وفي نفس الوقت صاحب الرؤية الأوضح لمهام ذلك الزمن القادم. 2 الرئاسة القادمة عليها أن تدرك بعمق أن الولاياتالمتحدة الآن في وضع فريد لم يتح لأية قوة غيرها في التاريخ، فلديها الآن شبه تفرد بالنفوذ، لأن انهيار الاتحاد السوفياتي واختفاؤه جعلها قادرة على «نشر قيمها» وترسيخ مسؤوليتها عن «حماية هذه القيم»! 3 الولاياتالمتحدة على عهد «ريغن» و«بوش» (الأب) تمكنت من الإمساك باللحظة التاريخية واستغلت الإمكانيات المادية والمعنوية للحفاظ على تلك اللحظة، وذلك ما ينبغي استئنافه مع الرئاسة القادمة والتمسك به وعدم التفريط فيه. 4 الإدارة الجمهورية القادمة عليها أن تمارس دورها في الدفاع عن المصالح الأمريكية والتمكين لها بغير «قيود» لا تستوجبها «ضرورات حقيقية»، بل إن الإدارة الأمريكية القادمة يحق لها «وحدها» توصيف المصالح الأمريكية دون اعتبار لغيرها، وهي مطالبة بالعمل على مسؤوليتها سواء من داخل الأممالمتحدة أو من خارجها. 5 الولاياتالمتحدة في ممارستها لمسؤوليتها الحالية يصحّ لها أن تتشاور مع غيرها من الأطراف الدوليين، على أن تحتفظ لنفسها بحق التصرف منفردة إذا وجدت ذلك ضروريا. 6 التصدي لخطر الإرهاب (حتى بميراث إدارة «كيلنتون» الحالية) هو النداء الذي يمكن حشد القوى الكبرى عليه (والصغرى أيضا)، وهذا النداء مازال قادرا على تحقيق حشد عالمي، لأن الكل معرض لخطر الإرهاب. والولاياتالمتحدة قبل غيرها مكلفة بالقيادة في مجاله لأنها الأكثر تعرضا لضرباته، وذلك يوفر لها إلى جانب حق الدفاع المشروع داعيا أخلاقيا يضيف إلى مشروعية دورها القيادي. (كان «جورج بوش» (الأب) على عهد خدمته كنائب للرئيس «ريغن» مسؤولا عن قضية الإرهاب ومكافحته، وكان مسؤولا عن لجنة عليا شكلها «رونالد ريغن» لمتابعة وملاحقة ومواجهة «خطر العصر» كما كان يسميه!).