لمحمد حسنين هيكل التونسية (تونس) في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. حدث ما لم يكن متوقعا وخسر «جورج بوش» (الأب) معركته الانتخابية وسقط أمام مرشح آخر مجهول من ولاية «أركانساس» أطلق شعارا سحريا لمس فيه نبض الشعب الأمريكي بقوله «إنه الاقتصاد يا غبي» موجها الخطاب بالطبع إلى الرجل الحالم بتعزيز الإمبراطورية الأمريكية دون أن يتنبه إلى أن الاقتصاد الأمريكي متعب مرهق، فقد خرج من الحرب الباردة مستنزفا، بشاهد أن الولاياتالمتحدة أصبحت أكبر بلد مدين في العالم، كما أن ظاهر رخائه يعود في صلبه إلى أن أموال الآخرين تدفقت عليه بحثا عن ملاذ بيعد يمكن أن يكون آمنا (ضمن هذه الأموال فوائض البترول).وقد نجح «كلينتون» لكن المشروع الإمبراطوري الكبير الذي تجلى لإدارة «جورج بوش» (الأب) ولأقطابها لم يسقط، فلم يكن ذلك المشروع هو المطروح على الناخبين لأن المشاريع التاريخية الكبرى أوسع من الضرورات اليومية المؤثرة مباشرة على صناديق الاقتراع! ومن المفارقات أن الخطوط الرئيسية للمشروع الإمبراطوري كتبت «وثيقة» على الورق في شهر مارس سنة 1992، أي بعد دخول «كلينتون» إلى البيت الأبيض بخمسة أسابيع، وتحت إشراف وزير الدفاع السابق «ريتشارد تشينى»، وكان القائم على صياغتها معاون مقرب منه هو «زالماي خالد زاده» (وهو الآن مبعوث الرئيس «بوش» (الابن) للإشراف على ترتيب الأوضاع في أفغانستان وقد انتقل أخيرا إلى مهمة أخرى هي العراق قبل حرب أمريكا ضده وبعدها). وحتى هذه اللحظة وبعد إحدى عشرة سنة من كتابة تلك الوثيقة ، فإن قراءتها (وهي مدرجة في ملفات مجلس الأمن القومي) يظل مفيدا وكاشفا لكثير جرى من وقتها وحتى الآن. وتقول الوثيقة في مقدمتها بالنص: «إن على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تعمل بكل جهدها حتى تتأكد من أن أية قوة منافسة (أو صديقة) في أي مكان في العالم لن تبلغ مكانة توازي مكانتها في القوة وعواملها. إن هذه المهمة في مقدور الولاياتالمتحدة وهي تستطيع أداءها عندما تتصرف باسم القوى الصناعية الكبرى في العالم بعد إقناع تلك القوى بأن الولاياتالمتحدة سوف تراعى مصالحها المشروعة وتحميها بقوتها العسكرية الغالبة، وعلى هذا الأساس فإن الولاياتالمتحدة مطالبة بإيجاد الآليات التي تضمن ردع أية قوة منافسة لها ورد طمعها أو طموحها إلى القيام بدور إقليمي أو عالمي أكبر. وعلى مثل هذه القوى الطامعة أو الطامحة إلى أدوار كبيرة ومنها ألمانيا واليابان وروسيا والصين أن تفهم مبكرا أن أية محاولة من جانبها لدخول مجال الأسلحة النووية أو زيادة ترسانتها على ماهو موجود فيها سوف تلقى مقاومة شديدة تتولد من الشك في نواياها ودواعيها إلى زيادة قوتها العسكرية، وحينئذ فإن مثل هذه القوى لابدّ أن تفهم أن ذلك سوف يضعها سواء قصدت أو لم تقصد على طريق «صدام» مع الولاياتالمتحدة، وعليه فإن الولاياتالمتحدة لابّد أن تظهر استعدادها مبكرا لمنع أية درجة من درجات الانتشار لأسلحة الدمار الشامل لكي يتأكد للجميع تصميمها على اتخاد الإجراءات الكفيلة بمواجهة مثل هذه الاحتمالات، سواء كان ذلك بطريقة جماعية أو بطريقة منفردة». ومؤدى الموضوع في هذه النقطة أن حدود السلاح لدى أية دولة في العالم اليوم، هي حدود ماهو موجود لديها الآن فعلا، ولا يحق لدولة منها أن تتجاوزه، وهنا يتكشف أن العالم أمام مشكلة على الطريق بعيدا عن العراق ووراءه، وأن هناك مضاعفات واسعة المدى تترتب عليها ولعل تلك معركة الغد وما يليه.وكانت إدارة «بيل كلينتون» بحقائق الأشياء واعية بأهمية المشروع الإمبراطوري الأمريكي، مطلعة على وثائقه لكنها كانت عازمة على تحقيقه بمزاجها وليس بمزاج أصحابه الجمهوريين الأصليين، ولدى ادارة «كلينتون» في ذلك سببين: من ناحية لأن تلك الإدارة أعطت الأولوية للاقتصاد (وبلغت في شأنه درجة مقبولة من النجاح). ومن ناحية أخرى لأن إدارة «كلينتون» آثرت أن تتخذ مع بقية العالم أسلوبا أكثر نعومة (يعتمد الحرير بديلا عن الحديد). يلى ذلك أن «كلينتون» أدرك انه يصعب تنفيذ مشروع أمريكا الإمبراطوري بتجاهل أوربا (أو كتل آسيا البشرية الكبرى التي سارعت تلحق بأسباب التقدم)، وكذلك استقرت إدارة «كلينتون» على أفضلية السماح بقيام مجلس ادارة لشؤون العالم له رئيس وعضو منتدب يمثل أغلبية أسهم الشركة الدولية، وذلك يعني حضور أوربا وكتل آسيا الضخمة في المشاورات والاجراءات (وإلى درجة ما في القرارات) وتظل الكلمة الراجحة لرئيس المجلس والعضو المنتدب، وهذا ترتيب لا يتجاهل حصة الأقلية أو يهملها، وفي حساب إدارة «كلينتون» أن نجاح المشروع الإمبراطوري الأمريكي يلزمه تجنب إثارة الشكوك وتقليب مواجع أطراف إمبراطورية أوروبية سابقة مازال لها حتى هذه اللحظة تأثير في القارة وعبر البحار. وبعدها كانت إدارة «كلينتون» متفقة على أن النداء الذي يستطيع إقناع الكل بقبول دور متميّز للولايات المتحدة هو التصدي للإرهاب الذي تتفاقم مخاطره (مع ظهور انقسام طبقي حاد على مستوى الدنيا بين أغنياء وفقراء وبين متقدمين ومتخلّفين)، وفي تقدير الإدارة الأمريكية (وقتها) أن الحرب على الإرهاب تستطيع المحافظة على تحالف عالمي واسع يستقطب كثيرين حتى من الفقراء والمختلفين ثم إنه تحت مظلة الحلف المعادي للإرهاب يمكن فتح الساحة أوسع كل يوم لقرار أو فعل أمريكي يضيف إلى قدرة الإمبراطورية الجديدة دون أن يستثير حساسية الآخرين، خصوصا ان كثيرين في مجتمع الدول يسلّمون بأن التصدي للإرهاب يحتاج إلى يد طولى تقدر على الوصول إلى أي مكان في العالم في أي وقت من الليل أو النهار، وذلك متوافر لأمريكا قبل أية قوة دولية غيرها! وفي مدة الرئاسة الثانية لإدارة «كلينتون»، وبينما الرئيس شبه معوق بمحاولات عزله، وشبه مجروح باضطراره للدفاع عن نفسه أمام شعبه وأمام شعوب العالم يحاول شرح الفارق بين جنس كامل وجنس غير مكتمل (والناس في كل أرجاء الأرض يسمعون ويضربون كفا بكف ولا يصدقون آذانهم!) بدت واشنطن حاملة طائرات ضخمة جنحت على الصخور!. وعندها بان لمن يشغلهم «الشأن الإمبراطوري» أن إدارة «كلينتون» لا تقدر على المهمة الإمبراطورية، وأكثر من ذلك لا تؤتمن، وبالتالي فإن عليهم مسؤولية استعادة الزمام إلى أيديهم. ولأنهم كانوا بعيدين عن الإدارة (وهم جمهوريون وهي ديمقراطية) فقد صرفوا الجزء الأكبر من جهدهم في النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين في البحث والدرس وصياغة المشاريع والدعوة لها على أمل أن تجيء إدارة جمهورية (تملك فرصة للفوز إذا استطاعت حملتها الانتخابية استغلال عيب الضعف الانساني الذي شاب إدارة «كلينتون» بنفس القوة التي استغلت بها حملة «كلينتون» ذلك الضعف الاقتصادي الذي عاب إدارة «بوش» (الأب)). وظهرت عدة بؤر تجمّع فيها دعاة المشروع الإمبراطوري الأمريكي المؤمنين بقدره المكتوب والمؤهلين للتنظير له، والساعين لتحقيقه كمهمة مقدسة. وكذلك ظهرت على الساحة الأمريكية وفي مواقع النفوذ (وإن لم يكن في دائرة السلطة) وفي مراكز التأثير (وإن لم يكن عند موقع القرار) جماعات معنية بالأمر راحت تسابق بعضها:كانت البؤرة الجماعة الأولى هي الغلاة من دعاة الإمبراطورية رجالا من أمثال «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الحالي)، و«ريتشارد بيرل» (مدير التخطيط الاستراتيجي في وزارة الدفاع الذي اضطر لتقديم استقالته قبل شهر بسبب فضائح مالية ثبت فيها استغلاله لمنصبه) و«بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الحالي) وكلهم من أقطاب إدارة «بوش» (الأب) وأركانها ونجومها، وهؤلاء ركزوا على بند إحكام السيطرة السياسية والعسكرية على الشرق الأوسط، والسائد في اعتقادهم أن «إسرائيل» هي الدعامة الرئيسية لخططهم في تلك المنطقة، لأن الشرق الأوسط فيه دولتين لديهما المؤهلات اللازمة لخدمة مشروعهم. الأولى: إسرائيل لأنها دولة تملك الكفاءة (في حين أن الدول العربية المحيطة بها حسب تعبير «رامسفيلد» هي في أحسن الأحوال أراض عقارية مازالت خالية وبعضها خرائب!!) وذلك التقدير أدى بأصحابه تلقائيا وبالعاطفة والعقل معا إلى تحالف مع أكثر العناصر تشددا في إسرائيل، أي أن أصحابه أصبحوا جميعا مؤيدين لحزب الليكود، وأنصارا لزعميه «آرييل شارون».(وقد كتب أحد الأقطاب من غلاة هذا التيار وهو «ويليام سافير» (من أبرز كتاب جريدة نيويورك تايمز) مقالا أورد فيه «أنه لا يستطيع أن ينام اللّيل مستريحا إلا بعدما يسمع صوت «شارون» على التليفون ثم يغمض عينيه!). وأما الدولة الثانية التي يمكن الاعتماد عليها فهي «تركيا»، لأنها بالحجم أقوى دولة في الإقليم، وفي نفس الوقت فإنها ليست عربية، وإنما على الحافة الموازية للعالم العربي، ولأن السلطة فيها للقوات المسلحة بنص الدستور، فإن القرار التركي يجيء أقرب إلى «الانبهار» بالتكنولوجيا حيث تتفوق أمريكا و(إسرائيل) أبعد عن «الالتزام» بالتراث الذي يجمع تركيا بالثقافة مع العرب.ومن وجهة نظر أقطاب هذه البؤرة الجماعة فإن «تاج» الشرق الأوسط يمكن تثبيته على رأس الإمبراطورية الأمريكية بعملية تصفية نهائية لمؤثرات عربية قومية قد تعاودها أحلام قديمة لم يعد لها الآن مجال، وتأمين ذلك يقتضي إجراء عملية جراحية واسعة في العالم العربي تغير أفكاره وتوجهاته وتغير قيمه ومعتقداته، حتى إذا اقتضت الجراحة زرع قلب جديد، يقبل به الجسم العربي فكرا وفعلا مهما كانت درجات الحساسية والمقاومة والرفض وإذا أصر الجسم العربي على العناد، فإن الجراح القائم على زرع القلب مخوّل بتوقيع شهادة وفاة! وكانت البؤرة الجماعة الثانية من أقطاب صناعة «البترول»، وبينهم «جورج بوش» (الأب)، و«جيمس بيكر» (وزير خارجيته)، و«ريتشارد تشينى« (وزير دفاعه، والآن نائب الرئيس)، وكان اجماع هؤلاء أن «البترول» هو المستقبل المنظور (حتى يجيء اختراق تكنولوجي يوفر بديلا للطاقة بسعر اقتصادي) وكذلك كان رأيهم أن «المشروع الإمبراطوري» الأمريكي لا يمكن إسناده بغير سيطرة كاملة على موارد البترول.