فقدت تونس أمس شاعرا «ملأ الدنيا وشغل الناس»، «محمد الصغير أولاد أحمد» هذا الذي اتفق عشّاقه كما أعداؤه على شاعريته العالية وقامته الإبداعية. «أولاد أحمد» كتب وصيته باكرا في كتاب «الوصيّة» (2005) قائلا: «يريدون إذاً أن يلتذّوا بنا مرّتيْن، مرّة حين نكون معهم ومرّة حين نكون قد كنّا فماذا هيّأوا لنا مقابل خدماتنا، عدا هذا الجحيم السفلي؟» وحين أزداد المرض استفحالا، كتب في 2015 من المستشفى العسكري رسائل وداع ربما خاف أن يدركه الموت دون كتابتها: «أودّعُ السابقَ و اللاحق أودّع السافل و الشاهق أودّع الأسباب و النتائج أودّع الطرق و المناهج أودّع الأيائل و اليرقات أودّع الأجنّة و الأفراد والجماعات أودّع البلدان و الأوطان أودّع الأديان ..... أودّع أقلامي و ساعاتي أودّع كتبي و كراساتي أودّع الصغائر و الكبائر أودّع السجائر أودّع الأغلال و القيود أودّع الجنود و الحدود .... أودّع المنديل الذي يودّع المناديل التي تودّع الدموع التي تودّعني أودّع.. الوداع» هذا الكائن النحيل جاء إلى تونس العاصمة من أرياف سيدي بوزيد محمّلا بلغته التي كان يعتقد أنها عادية و«اعتيادية» وبسجيّة بدوية طبيعية ليُفاجأ على حد قوله أنّ الآخرين يقولون له أنت شاعر وما تبوح به بصفة عفوية، قمة الشعر والغرابة. من هذا المدخل أحبّه الناس: لغة جديدة على بساطتها، صور شعرية فاتنة وبالخصوص شاعر لا يمكن الفصل بين ما يكتب وما يعيش وما يقول في السياسة والأدب والموسيقى والحياة. شاعر الحياة المولود في 04 أفريل 1955 توفي بعد يوم واحد من الاحتفال بعيد ميلاده، وكأنه استشعر قرب غيابه الجسدي، فكتب في 04 أفريل 2016 على جداره الفايسبوكي نصّ الرحيل: «تونس سلّمتُ في الدُّنيا... وقلتُ:أ كونُها: شعرًا ونثرًا ناقدًا ومُبشّرًا ...طولَ الفصولِ الأربعهْ 2 أنْثَى وأمّي ........................... ليس لي .... قبْرٌ في المَا-بعْدُ (في الأُخْرى) سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ تونس «المستشفى العسكري» عاش مهووسا بتونس وخاض تجارب عديدة جلبت له الإعجاب والأعداء، بين مناصر لنبرته العالية ومحتجّ على خوضه في المسكوت عنه، انقسمت الآراء حول مواقفه ولكنها أجمعت على أنه قامة شعريّة لا يمكن المزايدة على موهبتها وخصوصيتها. من «نشيد الأيام الستة» سنة 1984 الذي مُنع من الصدور إبان انتفاضة الخبز ودفاعه عن الاتحاد العام التونسي للشغل، مرورا ب«ولكنني أحمد» 1989 و«ليس لي مشكلة» 1998 و«حالات الطريق» و«الوصية» وغيرها خاصة في مجال النثر «القيادة الشعرية للثورة التونسية» 2013 وهي مجموعة نصوص كتبها قبل الثورة واستشرف فيها ما حدث وما سوف يحدث عاش أولاد أحمد عاشقا لتونس ولترابها على طريقته وها هو سيوارى في ذات التراب الذي أحبه. «نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد نحج إليها مع المفردين عند الصباح وبعد المساء ويوم الأحد ولو قتّلونا كما قتلونا ولو شردونا كما شرّدونا ولو أبعدونا لبرك الغماد لعدنا غزاة لهذا البلد» عاشق تونس، أولاد أحمد وداعا جسدا ومرحبا تخليدا وخلودا بكلماتك. ليرحمك الله.