بعد تجربة التعاضد في تونس في الستينات، والتي فشلت فشلا ذريعا، رغم قول بعضهم إنهم أفشلوها لغاية في نفس يعقوب، وقع الإقرار الرسمي منذ سنتي 19701971 بالتوجه الليبرالي كاختيار أوحد واستراتيجي للحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الدستوري الى سنة 1988 ثم التجمع الدستوري الديمقراطي حتى فرار بن علي يوم 14 جانفي 2011. ويتواصل نفس الاختيار الى اليوم، بعد أكثر من سنة من الثورة، وبرز ذلك في الابقاء على نفس الاسم على رأس البنك المركزي وإسراع حكومتي الغنوشي الاولى والثانية وحكومة الباجي قائد السبسي الى طمأنة الجهات الليبرالية العالمية والمانحين الخواص من بنوك وعلى رأسها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، بأن تونس أوفت وستفي بكامل تعهداتها المالية وسارعت في أفريل 2011 بخلاص كامل مستحقاتها من ديون وفوائد ديون. كل هذا مفهوم ومعلوم وإن كنّا نقدناه في حينه، ولكن ان يتواصل نفس السيناريو بعد الثورة وانتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة في ديسمبر 2011، فهذا أمر مقلق جدا ومحير ولا ينبئ بخير. نعم، إن هدف كل الحكومات التونسية المتتالية (4حكومات) هو طمأنة المستثمرين الأجانب والتونسيين معا والأوساط المالية العالمية ودفعهم الى مواصلة الاستثمار في تونس في وضع انتقالي صعب للغاية. ولكن الثورة حين هبت كان هدفها الأول والأهم هو القطع مع الممارسات الماضية والاختيارات العقيمة التي كانت نتيجتها فقط زيادة الفقر والتهميش في تونس وزيادة ثراء أقلية مافيوزية لا تعمل ولكنها استثرت فقط بالسرقة وتملّك الأراضي الحكومية والشركات بغير وجه حق وبالخصوص باستغلال بشع لعرق العمال والكادحين بمنظومات المناولة وبتقليص التأطير في المؤسسات والتهرب الجبائي وعدم تسجيل العاملين في الضمان الاجتماعي الخ... وقد عاش الشعب التونسي ويلات هذه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية ودفع ثمن ذلك غاليا، لا بتعميق فقره فقط بل بدماء زكية لمئات الشهداء. وهنا لا بد من التذكير بمحطات هامة وعمومية في هذا المسار: أ شهداء 26 جانفي 1978، البالغ عددهم اكثر من مائة اول الضحايا، دون ذكر مئات بل آلاف المعتقلين والمطرودين من الشغل... والذين لم يقع رد الاعتبار لهم لا معنويا ولا ماديا. ب شهداء الخبز في ثورة 3 جانفي 1984، وعددهم كذلك بالمئات ورمزهم الأستاذ الطالب الشاب الثائر: الفاضل ساسي الشاعر. ج شهداء أحداث الحوض المنجمي لسنة 2008 ورمزهم المناضل عدنان الحاجي د شهداء ثورة ديسمبر 2010 جانفي 2011 وعددهم حوالي 300 شهيد وأكثر من ألف جريح. كل هذه المحطات الدموية، لا بد من ذكرها واعتبارها نتيجة الاختيارات الليبرالية المتوحشة والتي لا تخدم أصلا إلا فئات قليلة ثرية متنفذة على حساب أغلبية الشعب التونسي المهمشة والمفقرة. ولا بد هنا من التذكير أن انتفاضة سيدي بوزيد والقصرين وصفاقس وتونس العاصمة وكلّ ولايات الجمهورية التونسية إنما اندلعت فقط من أجل هدفين اثنين لا ثالث لهما: الكرامة التشغيل ولا معنى لذلك إلا إعادة النظر في السياسات المتبعة الى اليوم والاختيارات الليبرالية التي أملتها علينا الأوساط المالية العالمية وفرضتها على تونس وعلى كافة بلاد العالم الثالث. لذلك نعجب اليوم، حين نرى حكومة السيد حمادي الجبالي، تواصل نفس التمشي، وكأنها بهذا تريد ربح الوقت مؤقتا لتركيز نفسها، وإن كنا نتفهم هذا الهاجس الآن، وخوفنا أن تكون هذه الحكومة، ومن ورائها النهضة، كحزب سياسي، لم تستوعب الدرس التاريخي بعد ولا فهمه ولا فهم ما يختلج في أعماق المواطن التونسي المنتفض دوما من أجل هدف وحيد، هو الكرامة والشغل على حساب حسابات سياسوية دغمائية، تعطي الأولوية للوصول للحكم والبقاء فيه والتشبث به مع نتيجة شبه محققة مسبقا، وهي إعادة نفس السياسة السابقة والتعامي عن أصل المشكل وجوهره وهو استعمال الحكم كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات. نعم، نجد لدى حركة «النهضة» كحزب هذا الهاجس الاجتماعي في برنامجها وقناعاتها، ولكننا نراها اليوم تعطي الأولوية للجانب السياسي فقط والذي يمكّنها من البقاء في السلطة والاستمرار فيها، وتمثل ذلك في: طمأنة أمريكا من خلال تصريحات الغنوشي والجبالي عند زيارتهما لها. طمأنة أوروبا والعالم من خلال تصريحات الجبالي والغنوشي ورفيق بن عبد السلام خلال انعقاد ملتقى دافوس الأخير (2012). طمأنة دول الخليج وإعطاؤها كل الضمانات لانطلاق مشاريعها التنموية في تونس، ولعل الحكومة تنسى أن هدف رجال الأعمال، في كل البلدان والأزمنة هو تحقيق الأرباح ولا شيء غير ذلك. لقد صرّح السيد كلاوس شواب (Klaus Schwab) رجل الاقتصاد المعروف ومؤسس فوروم دافوس: «إن تحليلا أعمق للوضع يعتبر اليوم ضروريا لفهم لماذا ان المنظومة الرأسمالية في شكلها الحالي لم تعد ملائمة» وأضاف انه منذ 2009 وبعد مضي أكثر من ثلاث سنوات لم نستخلص الدروس بعد لهذه الأخطاء التي تشوب المنظومة المبنية على شره الى ثراء الفاحش، والوضع يتطلب تغييرا للرأسمالية» (جريدة Le Mondeبتاريخ 15/11/2011، ص21) وبعد وضع اصبعه على هنات الرأسمالية طالب باصلاحات ضرورية وفي المنطلق بالعدول عن مبالغات الرأسمالية وإجحافاتها وضرورة ايلاء الأولوية في قادم الأيام، للعوامل الاجتماعية التي تناساها النظام الرأسمالي تماما في السنوات الماضية. إن هذه الدعوة الواضحة، من قبل النظام الرأسمالي لم تبلغ بعد في ما يبدو حكومة السيد الجبالي ووزير ماليته واقتصاده، وكأن حكومتنا متخلفة في الفهم حتى عن الذين تعمل باختياراتهم في حين أن الثورة التونسية أعطت لتونس ولشعبها، ومن المفروض ان يمر ذلك لحكومتها، حسا متقدما بالوعي عن أقطاب الرأسمالية، وكنا ننتظر من راشد الغنوشي وحمادي الجبالي ورفيق بن عبد السلام ان يعطوا درسا للرأسمالية في عقر دارها انطلاقا من دروس ثورة تونس وحرارة دم شهدائها، وأن يخضوا عروش الرأسمالية المستبدة والعمياء عن مطالب الكادحين والمستضعفين والمتكرمين بعرقهم وجهدهم من أجل إثراء الأقلية. ولكن ويا للأسف وعوض إعطاء الدروس، ونحن أهل لذلك نرى ساستنا ومسؤولي السلطة يتناسون ان اتباع نفس الخيارات المغشوشة والتي بان بطلانها طيلة أكثر من أربعين سنة في بلادنا، لا بد أن يعطي نفس النتائج من الحيف والدماء.