شخصية دينية بلباس سياسي حسب أنصاره، وسياسية بلباس ديني حسب خصومه، وفي الحالتين وفي الموقفين، هو شخصية مثيرة للجدل منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي إلى ما بعد الثورة. هو زعيم حركة الاتجاه الإسلامي، «النهضة» حاليا وصاحب تاريخ مطبوع بالسجن والمنفى وأخيرا الحكم ولكنه أيضا موثق بمواقف وتصريحات تحرج أنصاره وإن انتصروا له قبل أن تزيد في ريبة خصومه منه ! من قابس بدأ، ثم بن عروس التي كانت منطلقا حقيقيا في نشر أفكاره. ومن حركة دعوية تنشر مجلتها «المعرفة» في مطبعة «العمل» التابعة للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم آنذاك، إلى مواقفه وجماعته الرافضة للعمل النقابي في تلك الفترة ووقوفهم ضد الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل والذي انتهى بيوم الخميس الأسود 26 جانفي 1978 ، فالدخول إلى العمل السياسي بداية الثمانينات وهو ما أحدث اختلافا وصل حد الصدام مع السلطة بدأ بالمحاكمات والسجون ثم العفو فالتراجع فيه ليصبح حكما بالإعدام انتهى كابوسه قبل يوم من تنفيذه بانقلاب بن علي على بورقيبة، لتنقلب المواقف إلى النقيض في بداية التسعينات وتسارعت وتيرة الصدام وانتهت بخروج الغنوشي متخفيا إلى الجزائر ( وقد اختلفت الروايات بين قائل بصعوبة هذا الهروب وبين قائل بتسهيل بن علي وسلطته لخروجه رغبة منه في التقرب من الدول الغربية وأمريكا). من الجزائر إلى السودان، إيران، السعودية وأخيرا الاستقرار ببريطانيا، ليعود بعد الثورة معترفا في البداية بعدم مساهمته فيها قبل أن يتراجع في ذلك، ثم قوله أنه لا يطمح في أي منصب ويريد ترك مكانه للشباب ولكن !! لكن حين نرى تنقلاته المختلفة من الجزائر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا وقطر، واستقباله لأردوغان ثم لوزير الاقتصاد التركي وسفير فرنسا وأخيرا حضوره في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس وخاصة حديثه في كل مناسبة باسم البلاد التونسية يصبح السؤال ملحا: هل أن راشد الغنوشي حقا بعيد عن القرار السياسي في البلاد؟ المؤكد أنه الآن لا يتحدث كزعيم لحركة سياسية حاكمة وإنما كمسؤول في البلاد له شرعية الحديث باسم تونس ! لذلك يقول دائما « إن بلادنا» ! قد تبدو المسألة في ظاهرها بسيطة باعتباره زعيم حركة انتخبتها صناديق الاقتراع لكن بين صناديق الناخبين ومفهوم الدولة القائم على المؤسسات، يصبح حضوره الطاغي مدعاة لأسئلة عديدة عن دوره الحقيقي في صياغة سياسة البلاد. لقد كان الرجل واضحا من البداية بعد عودته تحت غناء آلاف من أنصاره في مطار قرطاج « طلع البدر علينا»، حين قال إنه لن يستلم أي منصب رسمي، ولكن سفراته الخارجية واستقباله في مقر حركة «النهضة» لشخصيات حكومية أجنبية تأخذنا إلى استنتاج متناقض لكلامه عن زهده في الحكم. فبين عدم رغبته في منصب حكومي وبين ما نراه الآن ازدواجية في الخطاب للقواعد والصحافة وللخارج. فتنقله إلى خارج تونس وإن كان لمصلحة البلاد، لا يمكن أن يقبل حين يتحدث بصيغة المسؤول التنفيذي فما الذي ترك لرئيس الحكومة في هذه الحالة وحتى للرئيس صاحب الصلاحيات المحدودة؟. إن التسريبات عن لقائه اليومي مع رئيس الحكومة وأداء صلاة الفجر معا، ليس تهمة باعتبار الأخير منتميا لحركة الغنوشي وهذا من حقهما، ولكن إذا كانت للجبالي شرعية انتخابية ظاهرة للعيان فهذا لا يعطي لزعيم حزبه الحق في تقلد كل المناصب دون أن يكون في الصورة الرسمية. في الجزائر تحدث لا باسم حزبه بل باسم البلاد ! وحين اجتمع بأردوغان استمعنا الى نفس الشيء ! وفي دافوس، (المنتدى العالمي الاقتصادي)، تركزت عليه الأضواء أكثر من رئيس الحكومة الذي استغرق خطابه أكثر من 15 دقيقة ورغم محاولة طمأنة الخارج واستعمال لغة هادئة، لم يكن لكلمته وقع مثل وقع كلمة الغنوشي. وقد حاول العجمي الوريمي عضو الهيئة التأسيسية لحركة النهضة، السبت الماضي ، التأكيد على أن حضور الغنوشي لم يكن رسميا بل كان استجابة لدعوات من جمعيات ستلتقي على هامش منتدى دافوس والمسألة صحيحة لأن المنتدى يضم فعاليات رسمية وأخرى حضرت على هامش انعقاده. ويبدو أن حضور الغنوشي أربك الوفد التونسي فصار الرسمي هامشيا والهامش رسميا . وقد تكون تصريحات الغنوشي مقبولة وإن اختلفنا معها أو اتفقنا لو أنه أدلى بها بصفته زعيم حزب سياسي، ولكنها تصبح مثيرة للجدل (حتى وإن كان زعيم الحزب الحاكم) حين يتحدث باسم تونس أي بصفة أدق باسم الدولة التي لا تمثلها إلا مؤسساتها الشرعية وشخصياتها الرسمية. وفي هذا الإطار نعتقد أن شخصية متمرسة في العمل السياسي ومناورة بامتياز كالغنوشي لا تطلق العبارات جزافا لذلك فإن حديثه دائما باسم البلاد إنما هدفه إرسال إشارات تطمينية للخارج طلبا لدعم مسار حركته لحكم البلاد ! ، طارحا «النهضة» كبديل مقبول لدى الغرب. وهذا يبدو واضحا في الالتزام باحترام كل التعهدات السابقة وقوله في أمريكا، ردا على تجريم التطبيع في الدستور القادم ، انه لا يرى في الدستور إلا ما يتعلق بتونس فقط، أو تصريحه الأخير في دافوس لإذاعة «صوت إسرائيل» الذي قال فيه إن حل القضية الفلسطينية موكول للفلسطينيين بالأساس وأن علاقة بلاده ! بإسرائيل سترتبط بحل هذه القضية. وهكذا قد يبدو الغنوشي زاهدا في الحكم كما يقول دائما ولكن كل مداخلاته وتنقلاته وخاصة كل حواراته في الدول الغربية وتعارضها مع خطابه الداخلي الموجه إلى قواعد حركته، تشير الى انه الحاكم الفعلي للبلاد وليس مهما أن يكون في الصورة الرسمية مادام ماسكا بكل خيوط اللعبة . على أن توجهه المبالغ فيه لطمأنة الخارج يستوجب قدرا مماثلا بل أكبر لطمأنة الداخل التونسي لأن تلون الخطاب قد يؤدي إلى خسارة الاثنين ! والسؤال الذي يبحث عن تأكيد او دحض هو: هل يحكم راشد الغنوشي البلاد من وراء الكواليس؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.